د. حسن يوسفـي المســـرح والضحـك
الزيارات:
الزيارات:
د. حسن يوسفـي المســـرح والضحـك
|
«Nous sommes ici-bas pour rire. Nous ne le pourrons plus au purgatoire ou en enfer, et, au paradis, ce ne serait pas convenable»
Jules Renard
مفارقات كثيرة تتصدر كل خطاب عن الضحك: فمن السهولة بمكان أن نكتب عن الضحك، لكن من الصعب جدا أن نتمكن من إنتاج كتابة مضحكة. الكل يضحك في أي زمان أو مكان، لكن ليس سهلا على الجميع تفسير ظاهرة معقدة كالضحك، والإجابة بالتالي عن سؤال: لماذا نضحك؟ والضحك يقوم في العمق على أساس متناقض. فهو حدث مفرح بالنسبة للذات الضاحكة، إلا أنه بالمقابل مؤلم بالنسبة للآخر موضوع الضحك. والضحك قد يكون ترجمة لشعور بالفرح والنشوة لكنه قد يكون أيضا علامة على ألم وغم شديد، أليست «كثرة الهم تضحك»؟ كما هو متداول في المأثور الشعبي. وللضحك علاقة حميمية بالحياة وبالموت في آن واحد. فالتعبير عن الفرحة العميقة بـ«الانفجار ضحكا» دلالة على الحياة التي تدب في أوصال الإنسان الذي يحس بالأشياء ويتفاعل معها، لكن ألا تؤدي كثرة الضحك إلى الموت؟ على الأقل رمزيا إن لم يكن فعليا إذا ما سلمنا أن موت القلب، أي موت الإحساس هو الموت الحقيقي. وأفكر هنا بالخصوص في التصور الإسلامي المأثور عن الرسول (ص) «إن كثرة الضحك تميت القلب».
وقد استأثر الضحك، باعتباره عالما مليئا بالمفارقات، باهتمام الكثير من الدارسين على اختلاف مشاربهم، حيث وقفوا عند مظاهره الفلسفية والنفسية والعضوية والاجتماعية والمرضية والأدبية.
وقد أدى تنوع الاهتمامات واختلاف الكتابات عن الضحك بين ما هو فلسفي (برغسون، شارل لالو) وما هو نفسي (فرويد، شارل مورون، سارة كوفمان)، وما هو أدبي (جان ساريل، دونيس جاردون)، إلى الوقوف عند مختلف مظاهر هذه الظاهرة المعقدة حيث طرحت أسئلة كثيرة ومتنوعة منها:ما هو الضحك؟ ما الذي يثير في الإنسان هذا الفعل الغريب؟ كيف يتم التمييز بين المضحك وغير المضحك؟ كيف نفسر ضحكنا من أشياء وتكشيرنا في وجه أخرى؟ ما هو الاساس النفسي لهذه الظاهرة؟ ما علاقة مظهرها البيولوجي بأبعادها النفسية والاجتماعية؟ ما هي أشكال الضحك وألوانه؟ كيف هي علاقته باليومي من جهة، وبمجال الفن من جهة أخرى؟.ما هي الوظيفة الأساسية للضحك بالنسبة للإنسان؟ هل له كتابة خاصة وقواعد أدبية مضبوطة؟ كيف يتمظهر في مجال المسرح؟ هل هناك بلاغة للضحك؟ كيف يتم إنتاج الضحك وكيف يتم تلقيه من لدن المتلقي؟، إلخ.
وقد تمخض عن هذه الأسئلة الكثيرة والمعقدة نشوء خطاب عن الضحك يرقى إلى مستوى النظرية الفلسفية المتكاملة (نظرية برغسون مثلا).ولعل جانب العلاقة بين الضحك والمسرح يعد من أهم الجوانب التي وقف عندها الدارسون رغم اختلاف انشغالاتهم. لذا، فلا عجب أن نجد منظري الضحك أنفسهم - على الرغم من أن اهتمامهم ذو طابع فلسفي أكثر منه أدبي - يعتمدون على المسرح لاستخلاص أمثلة واستشهادات تدعم تصوراتهم. يقول جان ساريل Jean Sareil في هذا الإطار: «نادرا ما اعتمَد منظرو الضحك على المؤلفين الكبار باستثناء كتاب المسرح» (3 - 6).ويبدو أن ما يفسر أكثر هذا الترابط بين المسرح والضحك هو اقتران هذا الأخير بأحد المظاهر المسرحية الأساسية في الحياة ألا وهو الكوميك «Le comique» وبأحد أهم الأنواع الدرامية المعروفة عبر تاريخ المسرح ألا وهو الكوميديا. ولعل هذا الاقتران هو الذي دفع البعض إلى القول بأنه: «رغبة في اكتشاف تكوين الضحك، فإننا نرجع بالضرورة للكوميك» (5 - 9). فالإثنان، عمليا، غير منفصلين.
لهذا فدراستنا عن المسرح والضحك سوف تحاول في البداية رصد مختلف نظريات الضحك مع إبراز الاختلاف الموجود بينها، ثم سنتوقف إثر ذلك، عند علاقة الضحك بالكوميك كمظهر عام يمكن إيجاده في الفن مثلما يمكن إيجاده في الحياة اليومية للإنسان. وللخروج من هذا المظهر العام إلى ما هو أكثر خصوصية، أي إلى ما هو أكثر التصاقا بالظاهرة المسرحية سيتم إبراز مختلف القضايا التي يطرحها الضحك في علاقته بالكوميديا كنوع درامي يقوم على أساس الضحك ويتوسل لإثارته بأشكال تعبيرية وأنماط وخطابات ولغات مخصوصة.
1 - نظريـات الضحـــك
يلاحظ المهتم بموضوع الضحك وجود نظريات قائمة الذات حوله تستوحي أسسها من توجهات فلسفية محددة ومن نظرة خاصة للإنسان ككائن حي يمارس نشاطه العقلي والنفسي والعضلي ويوظف إمكاناته التعبيرية المختلفة من أجل التواصل مع الآخرين. في هذا السياق تندرج نظرية برغسون القائمة على أساس فلسفة حيوية روحانية ««Vitaliste spiritualiste، هذه النظرية التي تتبنى التعارض بين التوجه الآلي والحيوي في الإنسان. أما سولي Sully صاحب التوجه التطوري التجريبي الانتقائي فيعتبر الضحك وسيلة للنضال الاجتماعي وأداة لرد الاعتبار بالنسبة لجميع المستضعفين بما في ذلك الأطفال والنساء والكادحون. ويربط ديكاس Dugas صاحب التوجه النفسي الفرداني بين الضحك واللعب مؤكدا على الطابع الفردي للضحك مادام موجودا كاستعداد داخلي في كل إنسان، وعلى طابعه الاجتماعي أيضا مادام يتحقق فعليا داخل المجتمع. ويعد تصور فرويد المنطلق من خلفية تحلينفسية من بين أهم التصورات النظرية عن الضحك خصوصا وأنه ربطه بالطريقة التي يصرف بها الإنسان طاقته النفسية، وهذا التصور هو الذي تبناه شارل مورون Charles Mauron في دراسته النقدية النفسية للنوع الكوميدي. وهناك بعض النظريات التي حاولت أن تقوض دعائم التصورات السابقة كما هو الشأن بالنسبة لشارل لالو Charles Lalo في كتابه «جمالية الضحك Esthétique du rire» حيث انتقد بشدة مواقف فرويد وبرغسون وغيرهما مؤكدا على ضرورة ربط الضحك بنسق القيم ومعلنا أن مصدر الضحك هو فقدان الانسجام الناتج عن إنقاص القيمةDévaluation. وفي نفس السياق نجد جان فوراستيي Jean Fourastié ينتقد نظرية الآلي/الحيوي البرغسونية ويتبنى عوضا عنها ما يسميه قطع الحتمية Rupture de déterminisme.
وحتى نتبين جيدا مختلف الفروقات بين أهم هذه النظريات، لا بأس من إبراز أسسها والوقوف عند الكيفية التي تعاملت بها مع الضحك كظاهرة إنسانية.
1 - 1 - برغسون: ميكانيكية الحياة أساس الضحك
يعتبر كتاب «الضحك Le rire» لهنري برغسون Henri Bergson من أهم المؤلفات التي تناولت موضوع الضحك من منظور فلسفي تحكمه منطلقات نظرية واضحة. فانطلاقا من اتجاهه الحيوي، ينظر برغسون إلى الضحك باعتباره شيئا حيا، لذا يؤكد على ضرورة معالجته بنفس الاهتمام والتقدير الذي نكنه للحياة نفسها. فالحياة - في نظره - تتطلب من الإنسان التشدد والمرونة، وغياب هذين العنصرين عن جسد الإنسان وفكره وطبعه يفتح المجال لمجموعة من النقائص التي لابد من التغلب عليها لتحقيق العيش الجيد. يقول برغسون: «كل تصلب في الطبع، في الفكر، وحتى في الجسد سيكون مرفوضا من لدن المجتمع مادام يشكل علامة ممكنة على نشاط خامل ومنعزل أيضا يتجه نحو الابتعاد عن المركز المشترك الذي يدور حوله المجتمع، وبالتالي نحو الغرابة» (1 - 15). ومادام هذا العجز المتمثل في التصلب والآلية التي تلحق بالإنسان لا تمس المجتمع ماديا، فإن هذا الأخير يتدخل معنويا من أجل التصحيح بواسطة الضحك الذي يعد «حركة اجتماعية Geste social» (1 - 15)، تعمل على قمع كل محاولة تغرب عن المجتمع وكل تصلب ميكانيكي أو أوطوماتيكية في الجسد الاجتماعي. ففي الحياة الإنسانية مجموعة من النقائص التي يعمل الضحك على تصحيحها، فهو يصحح التصلب بالمرونة، والثبات بالتغيير، والآلية بالحيوية، والتسلي بالاهتمام، والأوطوماتيكية بالنشاط الحر، والانعزال بالاجتماع. انسجاما مع هذا التصور الحيوي للضحك، يؤكد برغسون على ثلاث ملاحظات أساسية هي:
1 - لا وجود للضحك خارج إطار ما هو إنساني. فالإنسان كائن ضاحك ومضحك، وعليه فحتى عندما نضحك من حيوان ما، فالأمر لا يعدو كونه ضحكا من خاصية ما فيه تشبه الإنسان.
2 - الضحك يكون مصحوبا بانعدام الإحساس «Insensibilité». فالعدو الحقيقي للضحك هو العاطفة، لذا فلكي نضحك ينبغي أن نكون لا مبالين. يدعونا برغسون، إذن إلى التجرد من عواطفنا والتسلح باللامبالاة كي تتحول الأحزان أمام أعيننا إلى أفراح. يقول: «تجردوا الآن شاركوا في الحياة كالمتفرج اللامبالي، كم من الدرامات سوف تتحول إلى كوميديات» (1-4). ومادام الضحك يتوجه أساسا نحو الذكاء وليس نحو العاطفة، فإنه يحتاج إلى «تنويم Anesthésie لحظي للقلب» (1-4).
3 - الضحك فعل اجتماعي، يحتاج إلى نوع من الصدى، فهو «ليس صوتا منطوقا، صافيا، مكتملا. إنه شيء يريد أن يمتد بالانتشار من قريب إلى قريب. فهو يبدأ بالانفجار ليستمر بواسطة قصفات مثله مثل الرعد في الجبل»(1- 5). ولعل ما يحقق للضحك هذا الامتداد الاجتماعي هو كونه ينبني على نوع من التواطؤ المسبق والتفاهم الخلفي بين عدد من الضاحكين الواقعيين أو المتخيلين.
وانسجاما مع الارتباط الذي سبق أن أشرنا إليه بين الضحك والكوميك، فإن نظرية برغسون عن الضحك التي تلخصها عبارته الشهيرة: «Du mécanique plaqué sur du vivant» هي التي تحكم تصوره عن الكوميك سواء في الحياة أو في الفن، وتؤطرمختلف أشكاله ومظاهره الحركية واللغوية والمزاجية والموقفية. فما يثير الضحك في الحركة واللغة والمزاج والموقف هو الميكانيكية والتصلب، وما يضحك في الإنسان هو تحوله إلى شيء، أي ظهور آثار الآلية الأوتوماتيكية على حركته ولغته وموقفه. في هذا السياق يرى برغسون أن ما يضحك، مثلا، في سقوط رجل على إثر عثرة مَّا ليس فعل السقوط في حد ذاته وإنما هو التصلب والميكانيكية التي تسربت إلى جسده وجعلته يفقد المرونة «Elasticité» اللازمة التي تتطلبها الحياة.
1 - 2 - فرويـد: الضحك تصريف سريـع لطاقة نفسية
لقد صاغ فرويد نظريته عن الضحك من خلال دراسته الشهيرة بعنوان: «النكتة وعلاقاتها باللاشعور Le mot d’esprit et ses rapports avec l’inconscient» حيث حاول تفسير ظاهرة الضحك من منظور التحليل النفسي مؤسسا نظريته «على مقولة توفير الطاقة النفسية أو المؤثر«L'Affect»(2-138). فالضحك في نظر فرويد ظاهرة اقتصادية تتمثل في كون كل إنسان يمتلك تمثيلا ذهنيا أو تصورا مسبقا عن لحظاته الآتية. هذا التمثل الذهني المسبق تترتب عنه تعبئة كمية من الطاقة النفسية الكافية لاستقبال اللحظة الآتية، إلا أن هذه الكمية من الطاقة لا تكون بالضرورة مطابقة وكافية للحدث الآتي مستقبلا. لذا فتحسبا لأي طارىء يتم حشد فائض من هذه الطاقة يدفع إلى البحث عن تصريفه بطريقة أو بأخرى، بشكل بطيء أو سريع. ففي حالة تصريفه ببطء يتم الحصول على شعور بالارتياح والانتصار، وفي حالة تصريفه بسرعة، فإن النتيجة تكون نوعا من الانفجار والفرقعة تتحقق جسديا عن طريق الضحك. ينبغي التمييز إذن - كما يشير إلى ذلك شارل مورون - بين تمثيلين اثنين أولهما هو التنبؤ المحتمل باللحظة الآتية وثانيهما هو تمثيل الحدث الواقعي، واختلاف الثاني عن الأول هو الذي يفتح المجال لتصريفين مختلفين للطاقة النفسية المعبأة. يقول مورون: «إذا كان هناك توفير، فإن فائض الطاقة النفسية، المعبأ خطأ، يتحول إلى انتصار؛ وفي حالة ما إذا كان هذا التحول صعب المنال بسبب سرعة العملية، فإنه يتم جسديا في هذا المدخل إلى الصرع «accès d’epilepsie» الذي هو الضحك» (4-19).
وعلى أساس هذا المبدأ، أي تصريف الطاقة النفسية، يميز فرويد بين ثلاثة أنواع من الضحك ينطبق عليها كلها نفس المبدأ لكنه يتحقق فيها بتلوينات مختلفة. وهذه الأنواع هي: النكتة «Mot d’esprit»، والكوميك «Le comique»، والفكاهة «L’humour». يقول فرويد: «يبدو لنا أن لذة النكتة مشروطة بتوفير التصريف الذي يستلزمه الكبت، ولذة الكوميك مشروطة بالتوفير الذي يتطلبه التمثيل (أو الاستثمار)، ولذة الفكاهة مشروطة بتوفير التصريف الذي يستلزمه الإحساس» (2-140). ولهذا التوفير في كل الحالات أهمية خاصة تتجلى في العودة بالإنسان إلى حالته الطفولية، أي حالة الحرية وانعدام الرقابة. لذا، نجد مورون يؤكد على أن أهمية التصور الاقتصادي للضحك عند فرويد تكمن في أخذه الضحك الطفولي بعين الاعتبار.
1 - 3 - لالو: الضحك فقدان للانسجام البوليفوني بإنقاص القيمـة:
يعد كتاب «جمالية الضحك Esthétique du Rire» لشارل لالو Charles Lalo من أهم المؤلفات التي خاضت في موضوع الضحك بشكل مسهب، من منظور فلسفي تحكمه النظرة النسبية «Relativiste» للأشياء والقيم الإنسانية. وقد انصب اهتمام لالو بالخصوص على الضحك الجمالي، أي الضحك المرتبط بالأعمال الفنية سواء كانت تشكيلية أو موسيقية أو أدبية. ويقوم تصوره على أنقاض التصورات السابقة لكل من برغسون وفرويد على وجه الخصوص، حيث ينتقدها بشدة ويعتبرها نظريات ضيقة ودوغمائية. في هذا الإطار، يرى أن مقولتي الآلي والحيوي البرغسونيتين اعتباطيتان ونسبيتان، لذا يصعب نعت هذا بالآلي وذاك بالحيوي. فالمسالة خاضعة بالضرورة لقصدية الموقف، كما يبين أن التوفير النفسي الذي يقوم عليه الضحك في النظرية الفرويدية ليس في الحقيقة سوى شكل من أشكال فقدان الانسجام بواسطة الإنقاص من القيمة.
وتشكل مقولة الإنقاص من القيمة «Dévaluation» هاته المقولة المركزية في تصور لالو الجمالي عن الضحك؛ حيث ينطلق منها كفرضية عمل يحاول عبر تحليل مستفيض ومتعدد الأبعاد العمل على تبنيها كوسيلة لتفسير مختلف مظاهر الضحك الجمالي. ينطلق لالو من تعريف محدد للعمل الفني حيث يعتبره «تطابقا لمعطيات تقنية، تكون «أصواته» تارة في تناغم هادىء وجميل، وتارة في تنافر يحل تراجيديا عن طريق التسامي، أو كوميديا عن طريق التدني»(2-23). لذا، فعمل الفنان الأساس هو خلق الانسجام بين أجزاء مختلفة، لأن «كل عمل فني هو لعب تأليف ذو نمط بوليفوني» (2-11). فالكاريكاتور مثلا لكي يصبح فنا - في نظر لالو - لابد للفنان من خلق انسجام بين أصوات مختلفة: «الأصوات الأدبية للحكاية (اللغة الفصيحة أو المحكية، المعنى الواضح، الاستشهادات الضمنية، إلخ.)، والأصوات التشكيلية للصورة (التركيب السيمتري أو غيره، لعب الضوء والظل، الخطوط غير التامة المعبرة، الأنماط الأكثر أو الأقل قبحا، إلخ.» (2-7). وإذا كان أساس العمل الفني هو هذا الانسجام البوليفوني، فإن فقدان هذا الانسجام هو أساس الضحك الجمالي. ولكي يتحقق هذا الضحك، لابد من ربط العمل بنسق القيم والعمل على تقويم الأشياء في اتجاه ما هو أدنى، أي في اتجاه انتقاص القيمة حتى تصبح مدعاة للضحك. انطلاقا من هذا، يؤكد لالو على مبدأ أساسي هو: «أننا لا يمكن أن نضحك إلا من الشيء الذي بإمكانه أن يكون ذا قيمة كما بإمكانه أن يفتقدها» (2-45). وحتى تتحقق هذه الإمكانية لابد من الإيمان بأن كل القيم نسبية وقابلة بالتالي لأن تخضع للنظرة الدونية.
ومقولة انتقاص القيمة «Dévaluation» تعد - في نظر لالو - تركيبا لمقولتين أساسيتين قامت عليهما النظريات الأخرى وهما: التناقض«contraste» والإهانة «Dégradation» وعليه يصوغ معادلة للضحك الجمالي هي: «تناقض + إهانة = إنقاص القيمة» (2-33).
1 - 4 - فوراستيي: قطع الحتمية أسـاس الضحك
في كتابه «الضحك، تابع Le rire, suite» يهتم جان فوراستيي Jean Fourastié بالضحك باعتباره «وسيلة للكلام والتفكير والتواصل» (5-11) يستعمله الإنسان للتعبير عن كل الأشياء بما في ذلك الإحساس المأساوي بالألم. ولهذا علاقة بجانب مهم قلما تمَّ الانتباه إليه في ظاهرة الضحك، وهو جانبها البيولوجي. لذا انطلق فوراستيي من بعض المعطيات البيولوجية ليفسر الضحك باعتباره ظاهرة سيكولوجية وسوسيولوجية حيث بيَّنَ أن دماغ الإنسان يتكون من قارَّتين تلعبان أدوارا متكاملة في ما يخص إرسال واستقبال المعلومات ومعالجتها بطرق مختلفة حدَّدَها في أربعة هي:النوح، المضحك، المعقلن والمعاينة. فالضحك يشكل، إذن، إحدى هذه الوسائل التي يعالج بها الإنسان القضايا التي يستقبلها دماغه ليحقق تواصله مع الآخرين. إلا أن السؤال الذي يبقى مطروحا هو ما الذي يجعلنا نستعمل وسيلة الضحك؟ أو بعبارة أخرى: ما الذي يفسر هذه الظاهرة التي لها أصل في الدماغ الإنساني؟ يرى فوراستيي أن المقولة البرغسونية «الآلي في الحيوي» غير صالحة، ويقترح، بدلا عنها، مقولة قطع الحتمية «Rupture de déterminisme». والمقصود بهذه المقولة أن العادة جعلت الإنسان يبني داخل دماغه تخطيطا تمثيليا للواقع الذي يشاهده، من ثم يصبح قادرا على التنبؤ بالأشياء. هذه العادة أو هذه التجربة هي ما يسمى بالحتمية، لكن الأشياء لا تقع دائما كما نتصورها أو كما نتنبأ بها مما يترتب عنه قطع للحتمية من شأنه أن يخلق لدينا خوفا أو قلقا أو انتظارا أو اضطرابا. ولكي يصبح هذا القطع الذي مصدره تنبؤ خاطىء مضحكا، لابد أن ينشأ عنه تنبؤ جديد أكثر طمأنينة وتأكيدا يتحقق معه نوع من الأمن المادي والعقلي. لذا، فإننا «نضحك عندما تعضد الوضعية غير المعتادة بتنبؤ مؤكد» (5-24).
إن هناك فرقا، إذن بين نظريتي برغسون وفوراستيي. فالأول «يؤكد على بناء الشكل الكوميدي نفسه» (5-24) في حين يؤكد الثاني «على مهارة الضاحك المحتمل لاكتشاف الكوميك» (5-24).
2 - الضحـك والكـوميك
اقترن الحديث عن الضحك في كل الكتابات المتعلقة بهذا الموضوع بالحديث عن الكوميك «Le comique»، ولا عجب في ذلك مادمنا نعثر على تصورات متعددة تعرف الواحد منهما بالآخر، بل وتشير إلى ذلك حتى من خلال العنوان كما هو الشأن بالنسبة لبرغسون الذي عنون كتابه بـ«الضحك:بحث في دلالة الكوميك». وأكثر من ذلك، إن الكتاب كله يعد بمثابة بحث في أشكال الكوميك ومظاهره الحركية واللغوية والمزاجية. لذا، يمكن القول إن الحديث عن الكوميك هو حديث عن المظهر العام للضحك، أي عن تجلياته في الحياة وفي الفن على حد سواء، في حين يبقى الكلام عن الضحك في علاقته بالكوميديا كلاما عن الضحك داخل نوع درامي محدد عرف عبر تاريخ النظرية المسرحية بتميزه عن التراجيديا باعتبارها نوعا جادا. من هنا، ينبغي أن نؤكد على هذا التمييز بين الكوميك باعتباره مظهرا عاما للضحك، والكوميديا بوصفها مظهرا خاصا يربط الضحك بمجال المسرح.
2 - 1 - دلالـة الكوميك
إذا عدنا إلى الدراسات التي اهتمت بموضوع الكوميك وجدنا مجموعة من التعاريف التي تتقاطع فيما بينها على الرغم من اختلافها في تحديد دلالة الكوميك وعلاقته بالضحك. فبرغسون يعرفه قائلا: «الكوميك هو كل تركيب لأفعال أو أحداث تعطينا باندماجها الواحد داخل الآخر، الإيهام بالحياة والإحساس الصافي بالتنظيم الآلي» (1-53). يتميز هذا التعريف بالعمومية بحيث يشمل مظاهر الكوميك سواء في الحياة أو في الفن، فيكفي أن يظهر على حدث أو فعل أو موقف مَّا ما يوحي بميكانيكيته، لكي ننعته بالكوميك، من ثم، فإمكانية تحويل ما هو جاد إلى ما هو كوميدي واردة في حال تمكن الخيال من إضفاء نوع من الصلابة والآلية على المشاهد الواقعية الجادة. والكوميك باعتباره خاصية عامة يمكن أن ينطبق على الأحداث والأفعال والأمزجة مثلما يمكن أن ينطبق على الأشخاص. ويتحدث برغسون عن هذا الجانب قائلا: «الكوميك هو هذا الجانب من الشخص الذي يجعله شبيها بشيء، هو هذا المظهر من الأفعال الإنسانية الذي يحاكي بتصلبه ذي النوع الخاص الآلية الخالصة أو العادية والأوطوماتيكية، وبالتالي الحركة الخالية من الحياة. إنه يعبر عن نقص فردي أو جماعـي في حاجــة إلى تصحيـح سـريــع. والضحــك هـو هـذا التصحيـح نفسـه» (1-66/67). إن تصور برغسون، إذن، عن الكوميك لا يميز بين المظهر اليومي للظاهرة ومظهرها المسرحي، لهذا فقد انتَقَدَ البعضُ نظريَتَه عن الضحك من هذه الزاوية التعميمية.
وإذا كان هذا الاهتمام الفلسفي لبرغسون قد جعله يتحدث عن الكوميك باعتباره مظهرا عاما للضحك، فإن هناك تصورا آخر يحكمه الهاجس الأدبي اهتم بالكوميك في علاقته بالكتابة وهو التصور الذي صاغه جون ساريل «Jean Sareil» في كتابه «الكتابة الكوميدية «L’écriture comique. فعلى الرغم من تأكيده على صعوبة تعريف الكوميك بدعوى أننا «بمجرد ما نريد الكلام عن الكوميك والكوميديا يصبح المعجم المستعمل غير دقيق» (3-9)، فإن ساريل يقدم تعريفا لا يخلو من عمومية هو أيضا، قائلا: «إذا سئلت ما معنى الكوميك؟.فإن الجواب الوحيد الذي بإمكاني الموافقة عليه هو: ما يجعلني أضحك» (3-9/10) وساريل واعٍ بالنظرة الذاتية المتحكمة في تعريفه هذا، وهو لا ينكرها لكنه يدافع عنها مؤكدا أن الكوميك بقدر ما هو مرتبط بمنتجه بقدر ما هو خاضع في إضفاء صفة المضحك عليه بالمتلقي، خصوصا وأن التجارب أثبتتْ أن بعض الفرجات التي أنتجت خصيصا من أجل الإضحاك ربما لم تثر أي رد فعل من هذا القبيل لدى الجمهور، في حين أن بعض الفلتات غير المقصودة في فرجات جادة أثارت ضحكا صاخبا. من ثم فأخذ الجوانب الذاتية والموضوعية للكوميك بعين الاعتبار، أو بعبارة أخرى فالاهتمام بالكوميك في بعديه الإنتاجي «Productif»والتقبلي «Réceptif» مسألة ضرورية ومهمة.
في نفس الاتجاه يسير تعريف دونيس جاردون «Denise Jardon» الذي ربط بين الضحك والكوميك باعتبارهما وجهين لشيء واحد. فالكوميك- حسب جاردون - هو «عبارة نوعية Générique تشمل كل الأشياء الحركية منها والشفوية والتي تجعلنا نضحك أو نبتسم أيضا» (5-9).
لا يخرج هذا التعريف عن دائرة التعميم خصوصا وأنه يجعل الكوميك نوعا شاملا، لكنه أتى، مع ذلك بجديد يتمثل في تأكيده على أن الكوميك هو ما يجعلنا نضحك ونبتسم أيضا. وهذه الإشارة تفتح الباب لإشكالية جديدة هي: ما الفرق بين الضحك والابتسام؟
ودرءا لكل تيهان، فإن جاردون يحسم المسألة بسرعة بالتأكيد على عدم وجود حدود فاصلة بين الإثنين وعلى أن الفارق بينهما «مسألة تتعلق بالشخص» (5-9) هذا بالإضافة إلى أن الابتسامة هي، في نهاية المطاف، «ضحكة خفيفة صامتة» كما تشير إلى ذلك بعض المعاجم.
لكن هناك من يرى أن المسالة ليست بهذه البساطة. فالفرق بين الابتسام والضحك موجود في أبعادهما السوسيولوجية وارتباطهما بالتراتبية الاجتماعية. يقول ساريل في هذا الصدد: «الضحك ممجوج بالنسبة للبعض لأنه شعبي، ولأنه يبدو لهم فظا سواء بمظاهره الصاخبة أو بالوسائل التي تعمل على إثارته، فهم يفضلـون الابتسامـة الـتي هـي، في نظـرهـم، علامـة علـى الـذكاء والذوق الجيـد» (3 - 37). وأعتقد أن التجارب الاجتماعية تؤكد مدى سلامة مثل هذا التصور خصوصا وأن التراتبية الاجتماعية تختار كل الوسائل المادية والمعنوية في الإنسان كي تعبر عن نفسها؛ والضحك والابتسام يشكلان جزءا من هذه الوسائل.
2 - 2 - الكوميك بين الكلمة والحركـة
إذا كان الكوميك خاصية ملازمة للإنسان، فإنه مرتبط بالضرورة، بالوسائل التي يستعملها هذا الأخير من أجل التعبير والتواصل وهي اللغة والحركة. فالتصلب، والميكانيكية والأوطوماتيكية التي هي أصل الضحك كما يرى ذلك برغسون يمكن أن تظهر في كلام الإنسان وفي حركاته على حد سواء.
وإذا كانت المظاهر اللغوية للكوميك تتعدد وتختلف باختلاف المجتمعات، فإنها تختلف أيضا باختلاف اللغات، لأن ما قد يثير الضحك في عبارة عربية قد لا يثير أي شيء في نفس العبارة بالفرنسية أو الإنجليزية مثلا. لذا، فبرغسون كان على صواب عندما ميَّزَ بين مظهرين للكوميك في اللغة قائلا: «لكن ينبغي التمييز بين الكوميك الذي تعبر عنه اللغة والكوميك الذي تخلقه اللغة. فالأول بإمكانه، إلى حد ما، أن يترجم من لغة إلى أخرى مع احتمال أن يفقد الجزء الأكبر من وضوحه بالانتقال إلى مجتمع جديد، مختلف بعاداته، بأدبه، وبتداعيات أفكاره على وجه الخصوص. في حين أن الثاني عموما غير قابل للترجمة. إنه خاضع لبنية الجملة واختيارات الكلمات» (1 - 79). فيما يخص النوع الأول، أي الكوميك الذي تعبر عنه اللغة، يمكن أن تدرج فيه كل النكت أو النوادر أو الطرائف التي تحكى في أي مجتمع شريطة أن يكون المضحك فيها هو المحتوى أو الحكاية وليس لعب الكلمات في حد ذاته. في هذا الإطار، لنأخذ حكاية مضحكة مرتبطة أشد الارتباط بسياق عربي إسلامي مادامت تتضمن قرائن سياسية وأدبية ودينية معبرة عن هذا السياق، وهذه الحكاية هي: «نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم ذاهبون إلى وليمة، فقام وتبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائحهم.فلما أنشد كل واحد شعره وأخذ جائزته لم يبق إلا الطفيلي وهو جالس ساكت، فقال له: انشد شعرك.
فقال: لست بشاعر.
قيل: فمن أنت؟
قال: من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم (والشعراء يتبعهم الغاوون). فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعراء» (9-38).
فلو ترجمنا هذه الحكاية المضحكة لفرنسي أو إنجليزي لأثارت ضحكه مثلما أثارت ضحك المتلقي العربي، لأن المضحك فيها ليس الكلمات في حد ذاتها وإنما موقف الطفيلي داخل الحكاية. لكن إذا أخذنا حكاية ترتكز على الكوميك اللغوي، أي على الكلمات والعبارات كمصدر للضحك وحاولنا ترجمتها ستفقد مظهرها المضحك، ويمكن أن نمثل لذلك بالحكاية التالية التي تسخر من أحد النحويين: «قال نحوي لصاحب بطيخ: بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفرجلتان ودونهما الرمانتان؟ فقال: بضربتان وصفعتان ولكمتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان» (9-21).
ولخلق الكوميك في اللغة وسائل مختلفة سواء كان هذا الكوميك مكتوبا أو شفويا. وقد أشار برغسون إلى ثلاثة منها: القلب «Inversion»والتداخل «Interférence» والتحويل «Transposition». وهذه الوسيلة الأخيرة تستعمل في العلاقة بين الكوميك المكتوب والشفوي حيث نجد أن نقل عبارة ما بواسطة نبرة غير النبرة الطبيعية التي تفترضها هذه العبارة من شأنه أن يثير الضحك. لذا، لا نستغرب من عدم الضحك من عبارة مكتوبة نقرأها في حوار مسرحي، في حين قد تصبح هذه العبارة مثارا لضحك صاخب عندما نسمعها ونشاهدها مؤداة على خشبة المسرح يلقيها ممثل كوميدي بنبرة مضحكة.
وللحركة قدرة تعبيرية كوميدية جد هامة. ولعل هذا هو السر في اعتماد الكوميديا، كنوع مسرحي مضحك عليها كإحدى أهم الوسائل التعبيرية.ولا بأس هنا أن أذكر بالمشاهد الصامتة للممثل الكوميدي العالمي شارلي شابلن التي أثارت من الضحك في كل الأزمان والأماكن خلال هذا القرن، أكثر مما أثارته أجود النصوص الكوميدية المكتوبة بعناية فائقة. ولعل السر في قدرة الحركة على التعبير عن الكوميك هو كونها من جهة قابلة لإضحاك الناس مهما اختلفت سياقاتهم. فهي لغة كونية، إن صح القول، كما أنها تسمح من جهة أخرى للمتلقي أن يرى كيف يتحول الشخص، بفعل الآلية والأوطوماتيكية في الحركات، إلىشيء، لأن هذا التحول هو الذي يثير الضحك فينا. فمن منا لا يضحك بعمق عندما يشاهد مهرجا في السيرك يتكور ليصبح كرة يقذف بها مهرج آخر، أو يتحول إلى كرسي يجلس عليه صاحبه إلى غير ذلك. والمسرح الكوميدي نفسه يستغل هذا الجانب الحركي بكثرة نظرا لاحتوائه على طاقة مضحكة لا تقل أهمية عن الضحك الذي تثيره الكلمات.
2 - 3 - وظيفـة الكوميـك
عندما ميَّزَ أرسطو في شعريته بين التراجيديا والكوميديا على أساس أن الأولى تحاكي أفعال علية القوم، في حين تحاكي الثانية أفعال الأراذل منهم، كان قد وضَعَ اللبنات الأساسية للكوميك باعتباره وسيلة لاستهداف كل المظاهر السامية التي كوَّنَها الإنسان عن نفسه ومحاولة الكشف عن كل ما تخفيه من جوانب النقص والتشويه. فالكوميك يبين أن الحقيقة الإنسانية مزدوجة. فصورة الإنسان فيها من العقل والذكاء والتسامي والقوة قدر ما فيها من الحماقة والبلادة والخبث والجبن. ومادام الكوميك يستهدف صورة التسامي التي كونها الإنسان عن نفسه، فإنه يتوجَّهُ بالأساس نحو الجوانب السلبية من أجل تعريتها وانتقادها. من هنا فقط اقترنت الوظيفة الاجتماعية للضحك بضرب المقدس «Désacralisation». فعن طريقه يتم وضع كل المحرمات بما في ذلك الجنس والدين والسياسة موضع انتقاد وسخرية وهدم أيضا في بعض الحالات. يقول ساريل: «إن ضرب المقدس لا يترك شيئا، لا الأفراد ولا المؤسسات، وينتج عن ذلك أن الكوميك يتجـه بطبيعـة الحال نـحـو الأسفـل، مادام هدفه هـو الانتقـاص» (3-23).
وهذا النوع من الضحك المرتبط بالكوميك الذي يستهدف قدسية الأفراد والمؤسسات، يمكن اعتباره ضحكا ملتزما أو وظيفيا لأنه يكشف عن المظاهر الخادعة في المجتمع، لكن الضحك لا يكون دائما وظيفيا وبناء، لأن هناك ضحكا مجانيا له وظائف أخرى كالتسلية وتزجية الوقت. بل وهناك أنواع أخرى من الضحك ذات أبعاد مختلفة يشير أحدهم إليها قائلا: «هناك ضحكات الأغبياء، وضحكات المعذبين، كما أن هناك ضحكات صاخبة لمجانين وضحكات صاخبة لعقلاء» (6-18). والتمييز بين ما يمكن تسميته بالضحك العاقل والضحك الباتولوجي يشكل موضوعا آخر يهم المحللين النفسانيين أكثر من غيرهم.
3 - الضحـك والكوميديـا
لا أحد يجادل في كون الكوميديا تشكل المجال المسرحي الأكثر اشتغالا بالضحك. فعلى الرغم من كون الأنواع الجادة كالدراما والتراجيديا قد تستعمل أحيانا بعض التقنيات التي لها علاقة ببلاغة الضحك، إلا أن القصدية المتحكمة في هذه البلاغة داخل ما هو جاد مختلفة عن القصدية المتحكمة في بلاغة الضحك الكوميدي. لذا، ظلت الموضوعات التي تخوض فيها الكوميديا والتقنيات التعبيرية التي تستعملها، تستهدف بالأساس إثارة الضحك بكل أنواعه. من ثم، فالوقوف عند هذا النوع الدرامي وإبراز تميزه عن النوع الجاد والكشف عن طرق إنتاج الضحك فيه مسألة أساسية في الحديث عن علاقة المسرح بالضحك.
3 - 1 - الكوميديا / التراجيديا
منذ أن أقامت نظرية الأنواع الكلاسيكية تمييزها بين الكوميديا والتراجيديا على أساس مفهوم المحاكاة، ظلَّ هذا التمييز قائما عبر الممارسة الدرامية حتى عندما وقع تبني فكرة المزج بين الأنواع وضرب الحدود الفاصلة بينها. وقد ظل موضوع الضحك وأسسه ووسائل إثارته من أهم ما يميز الكوميديا عن التراجيديا. وقد انعكس هذا المظهر المضحك للكوميديا على مختلف مكوناتها النصية والفرجوية حيث ظلت تمثل فن الجسد بامتياز على عكس التراجيديا التي تمثل فن الروح. وأساس هذا التمييز أن الجسد يشكل المنبع الأساس لكل حركة ميكانيكية أو أوطوماتيكية من شأنها إثارة الضحك- كما يرى برغسون - لذا تمَّ التركيز عليه في المسرح الكوميدي. وهذا التركيز جعل المؤلف الكوميدي مطالبا بمعرفة أكثر ما يمكن من الأشخاص وطبائعهم وسلوكاتهم وحركاتهم عن طريق ملاحظتهم من أجل استخلاص مواقف وأنماط وخصائص كوميدية تكون موضوع عمله. وهذا ما يجعله يختلف عن المؤلف التراجيدي الذي ليس مطالبا بالملاحظة الخارجية للآخرين لإنتاج عمله، بقدر ما هو مطالب بالإنصات إلى أعماقه واستثمار مختلف النزوعات والقيم والعواطف التي تتصارع داخله والتي مصدرها علاقته بذاته وبكينونته وبوجوده.
وهذا الاختلاف بين التراجيديا والكوميديا ينعكس بشكل واضح حتى على عناوين المسرحيات. فقد عرف تاريخ المسرح اختيار أسماء أنماط أو طبائع أو أنواع للكوميديات، في حين تمَّ اختيار أسماء أفراد أو أعلام للتراجيديات. يقول برغسون عن هذا الجانب: «إن عنوان الكوميديات الكبرى نفسه له دلالة. فَكَارِهُ البَشَرِ، والبخيل، واللاعب، والمغفل هي أسماء أنواع. وحتى عندما يكون لكوميديا الأمزجة إسم علم كعنوان، فإن هذا الأخير ينجرف بسرعة، بفعل ثقل محتواه، مع تيار الصفات المشتركة. إننا نقول: «طرتوف Un tartuffe، لكننا لا نقول فيدر Un phèdre أو بوليوكت Un polyeucte» (1-125).
وينسجم هذا التمييز بين الكوميديا والتراجيديا على أساس التركيز على الجسدي أو الروحي مع الوظيفة الأساسية للضحك - كما يراها برغسون- وهي وظيفة التصحيح التي ينبغي أن تمس أكبر عدد من الأشخاص داخل المجتمع، وذلك من خلال التركيز على المشترك والعام بينهم، أي على الطبائع والأنماط البشرية.
3 - 2 - الكتابـة الكوميدية
لقد أثار المهتمون بالمظهر الأدبي للضحك إشكالية تتعلق بمدى إمكانية وجود كتابة كوميدية تمكن من الحديث عن بلاغة خاصة بالضحك. ومن بين أهم الإجابات المقترحة في الموضوع تلك التي قدمها جان ساريل Jean Sareil في كتابه «الكتابة الكوميدية L’écriture comique» حيث انطلق من قناعة مفادها أن المنطلق الذاتي أساسي في تحديد الكوميك، من ثم يصعب الاتفاق حول خصائص عامة تجعلنا ننعت أسلوبا ما أو طريقة في الكتابة بكونها كوميدية، لا من حيث العمق ولا من حيث الشكل.
ففيما يخص جانب العمق، يقول ساريل: «ليس للكوميك مجال خاص به. فكل حكاية تطرح في البدء، صراعا أي وضعية درامية في حد ذاتها. في حين أن هذه المواجهة بين الشخصيات في إطار معين تبقى هي نفسها سواء كان الهدف هو الإقلاق أو الإضحاك. فطريقة معالجة الموضوع هي التي تخلق الاختلاف. بديهي أن بعض الوضعيات تنسجم أحسن مع التراجيديا وأخرى مع الكوميديا. إلا أن الفروقات ليست جد كبيرة كما يمكن أن نعتقد.فالتضحية الأكثر نبلا لا تتحمل دائما جانبا من العبث، والمضحك الأكثر تأكيدا إذا نظر إليه من زاوية مشفقة يثير الرحمة كرد فعل» (3-10/11). ولعل هذا التداخل هو الذي يسمح بإمكانية تحويل أي موقف كوميدي إلى تراجيديا والعكس صحيح.
وفيما يخص جانب الشكل، يرى ساريل أنه «لا توجد طريقة في الكتابة ذات طابع مضحك» (3-12).
وأغلب الدراسات التي أنجزت بهدف إبراز مظاهر الكوميك في كتابة ما وقفتْ عند الوصف الخارجي لمختلف طرق الكتابة واستخراج الاستشهادات الدالة عليها، ناسية أن نفس هذه الطرق يستعملها الكتاب الكبار كما يستعملها الفكاهيون العاديون. من ثم، فإن «الفائدة الوحيدة لدراسة التقنيات، ذات طبيعة إحصائية. وهي تصل في نهاية المطاف، إلى تحليل كمِّي لظاهرة كيفية» (3-13). ولعل ما يزكي هذا الموقف هو أن المكونات الأساسية لبلاغة الضحك كالتكرارات والطباقات والمقابلات والمفاجآت يمكن إيجاها في الأعمال الكوميدية كما في الأعمال الجادة، والشيء الذي يميز استعمالها في هذه عن تلك هو علاقتها بقصدية المؤلف ونواياه. من هنا، فالوقوف عند علاقة النص الكوميدي بمؤلفه ورؤيته للأشياء مسألة أساسية لإبراز خصوصية الكتابة الكوميدية التي يشكل الضحك هدفها المركزي. لذا، فكل المكونات الأخرى للكوميديا بما فيها الحكاية والشخوص، وعلى الرغم من أنها تخضع في تبنينها وخصائصها لميسم متميز، إلا أن ربطها بمنظور المؤلف للأشياء يبقى شيئا أساسيا لتحديد طابعها الكوميدي المضحك.
3 - 3 - أنماط الخطاب الكوميدي
على الرغم من أن عالم الضحك يبدو متجانسا، إلا أن مجالات تحققه جد مختلفة حيث تعرف تنويعات دقيقة في المواقف والمنطلقات والتقنيات.وقد تعودنا - انطلاقا من وهم التجانس هذا - أن نخلط بين أنماط كوميدية جد مختلفة.فبالنسبة إلينا لا فرق بين نكتة عادية، ومونولوج ساخر، وحكاية فكاهية، مادام الهدف واحدا وهو الضحك.
إلا أن المهتمين بالمظاهر الأدبية للضحك يصرون على إقامة التمييز بين أربعة أنماط كبرى تركت آثارها واضحة في تاريخ الضحك عبر العصور، وهي: السخرية «Ironie»، والفكاهة «Humour»، والمحاكاة الساخرة «Parodie»، والهجاء «Satire».
فالسخرية حظيت باهتمام الفلاسفة والبلاغيين والمحللين النفسانيين واللسانيين وعلماء المسرح حيث وقف كل من زاويته عند مظهر من مظاهرها. إلا أن هذه الاهتمامات - رغم تنوعها تجمع على أن السخرية تقتضي بالأساس قول عكس ما نفكر فيه. وهذا ما يعبر عنه باتريس بافيسPatrice Pavis من خلال تعريفه للسخرية في معجمه المسرحي قائلا: «يكون ملفوظ ما ساخرا منذ الوهلة الأولى التي يُظْهِرُ فيها معنى عميقا مختلفا بل ومعاكسا «Antiphrase» علاوة على معناه البديهي والأولي» (7-209). والسخرية بهذا المعنى، تعد جزءا من الحياة اليومية للإنسان مثلما تعد إحدى أهم الوسائل التعبيرية المستعملة في مختلف الفنون وفي المسرح على وجه الخصوص. وتتميز بكونها «هازئة، عدوانية، تستهدف شخصية - ضحية، وناقدة. فهي، إذن، مغرضة» (5-73). والسخرية قد تكون كلامية تجسد حضورها في الخطابين اليومي والأدبي بطرق متعدة، كما أنها قد تكون سخرية حالة «Ironie de situation» تترجم تناقضا بين موقفين أو حالتين متجاورتين أو متزامنتين.
وتتميز الفكاهة عن السخرية، فإذا كانت هذه الأخيرة تشكل «سلاحا هجوميا، فإن الفكاهة تستعمل كدرع للوقاية» (6-21). كما أن السخرية تستهدف شخصية - ضحية بالضرورة، بينما نجد الفكاهة «لا تتردد في الاستهزاء من الذات والسخرية من الساخر نفسه» (7-85). مما يجعلها تعبر عن نشوة خاصة ولذة متميزة. يقول أحدهم عن هذا الجانب: «بينما تعد الفكاهة فرحة مجانية ليس لها من هدف سوى لذتها الخاصة ولذة الآخر، فإن السخرية تقصد إدانة سلوك شخص أو جماعة ما» (6-20). واللذة المرتبطة بالفكاهة لا تجعل منها ضحكا مجانيا بالضرورة لأن لها أهدافا أخرى ومقاصد نبيلة تصل إليها بطرق غير جارحة، وهذا ما أكده أحد الباحثين في الأدب الفكاهي قائلا «وإذا كان الغرض من الفكاهة ليس هو الإضحاك والضحك فحسب، وإنما هو ]...[ التقويم والتهذيب والإصلاح بنقد أنواع من النقص أو القبح أو الخروج على المألوف، فإنه يشترط في هذا النقد ألا يجرح كما يجرح الهجاء» (8 - المقدمة). فالفكاهة، من هذا المنظور، لا تخلو من نية مغرضة، إلا أن طابعها المغرض هذا يغلف بقناع غير هجومي أو غير عدواني. ولتحقيق ذلك، تمر الفكاهة بمرحلتين أساسيتين: تتطلب الأولى فكرا نقديا يكشف المنظور الساخر لكل ما يحيط بنا، وتتميز الثانية بكونها مرحلة بناء أو مرحلة الإثارة الفكاهية «Rebondissement humoristique» كما يسميها روبير إسكاربيت Robert Escarpit وهي التي يتحول فيها اتجاه النقد نحو الضحك والإضحاك.
وتتميز المحاكاة الساخرة بارتباطها الشديد بالمجال الأدبي وبعالم التداخل النصي خصوصا وأنها لا تتحقق إلا بوجود نص مسخور منه «Texte parodié» ونص ساخر «Texte parodiant». ويعرفها بافيس قائلا: «هي مسرحية أو مقطع نصي يحول بطريقة ساخرة نصا سابقا عليه، وذلك بالاستهزاء منه بواسطة كل أنواع المؤثرات الكوميدية» (7-274). ولكي يتحقق الهدف من المحاكاة الساخرة لابد لصاحبها من الإشارة في نصه باستمرار إلى النص الذي سخر منه مع القيام بقلب كل القيم والعلامات التي يقوم عليها، كأن يضع المنحط مكان النبيل، واللااحترام مكان الاحترام، والهزل مكان الجد، إلخ. وللمحاكاة الساخرة علاقة وطيدة بعملية القلب والتحويل والتغيير التي تخضع لها القيم الأدبية والمواضعات الفنية عبر عصور الأدب، خصوصا وأن خطابها يشتغل كميتالغة ويتحول إلى خطاب نقدي يتناول مكونات النصوص السابقة بطريقة ساخرة.
ويعد الهجاء سخرية من نوع خاص تقوم على عناصر أساسية حدَّدَها جاردون قائلا: «تنضاف إلى الحجج الصارمة التي يمليها الذكاء على كل شخص وسيلة أكيدة هي: الازدراء المتلائم مع هزء ذي كمية كبيرة ينتقص من الخصم ويقوضه على مرأى من ملاحظ محدَّر. فهزيمة الآخر ليست عقيلة فقط، أي على مستوى الأفكار وحسب، وإنما تمسُّ شرفه أيضا» (5-216). فالهجاء ينطلق إذن من أساس صراعي، أي من تصفية حساب بطريقة العنف - ليس الجسدي - وإنما الكلامي. لذا، فالهجاء لا يقوم على السخرية العقلية وحسب وإنما يبلغ مستوى السخرية الأخلاقية، ولنا في الشعر الهجائي العربي أبرز دليل على ذلك حيث يتم التشهير بقبح الآخر الجسدي وبنقائصه العرقية والأخلاقية.
4 - تركيـب
يتضح من هذه الوقفة عند موضوع الضحك وأبعاده الفلسفية والأدبية وعلاقته بمظاهر الكوميك سواء في الحياة اليومية أو في مجال الفن المسرحي، أن الموضوع جدير بالاهتمام وأنه يتميز بالاتساع والتعقيد. ومع ذلك، تبقى معرفة الأسس النفسية والأبعاد السوسيولوجية والتمظهرات الأدبية للضحك مسألة أساسية بالنسبة للمشتغلين في حقل المسرح سواء كانوا نقادا أو مبدعين. وما أحوج كتابنا الكوميديين إلى مثل هذه الخلفية المعرفية المتعلقة بالضحك وأشكاله وأنماطه ومظاهره وأبعاده الإنسانية، لأن كتابة كوميدية تفتقر إلى مثل هذه المعرفة لابد أن تتحول إلى تهريج فارغ من أي مدلول إنساني أو فكري. ولعل ما زكَّى اقتناعنا بهذا الموقف هو أن اهتمامنا بموضوع الضحك جعلنا نؤمن بأن الكتابة المضحكة تعد أصعب بكثير من الكتابة الجادة لأنها تتطلب الموهبة في مجال الهزل، والمعرفة العميقة بالإنسان وبمكوناته النفسية بالإضافة إلى التمرس بمختلف أشكال الضحك وألوانه وطرق التعبير عنه أدبيا وفنيا.
الهوامــش والمراجـــع
1- Bergson, Henri, Le rire, PUF, 1940.
2- Lalo, Charles, Esthétique du rire, Flammarion, 1949.
3- Sareil, Jean, L’écriture comique, PUF, 1984.
4- Mauron, Charles, Psychocritique du genre comique, Librairie José corti, 1964.
5- Jardon, Denise, du comique dans le texte littéraire, De Boeck - Duculot, 1988.
6- El Gozy, Georges, De l’humour, Denoël, 1979.
7- Pavis, Patrice, Dictionnaire du théâtre, Messidor/Editions sociales, 1987.
8 - د. عبد العزيز شرف، الأدب الفكاهي، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، 1992.
9 - الدكتورة وديعة طه نجم، «الفكاهة في الأدب العباسي»، ضمن مجلة عالم الفكر، المجلد 13، العدد 3، اكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 1982.
|
بقلم الياس معاد
إسمـي الياس معاد مـن مواليـد سنـة 1989 ،بلـدي هـو المغرب، أهتم بمجال الفنون كلها بحكم مساري الدراسي و شغفي بالفنون السبعخريج الجامعة المتعددة التخصصات بورزازات شعبة التقنيات السمعية البصرية ; و السينما تخصص الصوت و الصورة خريج المعهد المتخصص في مهن السينما شعبة محرك آلياتي وكهربائي -أستاذ التعليم الابتدائي بورزازات -طالب باحث في المدرسة العليا للأساتذة بماستر التعليم الفني و التربية الجمالية بمكناسروابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |
0 التعليقات:
إرسال تعليق