بنيونس عمريوش(*)
من نافلة القول أن الفن الجيّد و
الصناعة الفنية الجيّدة ( الديزاين، التصميم، التعليب، الإشهار،
الخدمات...) رهينان بالتكوين الجيّد الذي يستجيب لأساليب العصر الجديدة و
المتسارعة. من ثمة، فإن التكوين الفني يضعنا اليوم، و بإلحاح شديد، أمام
تحديات القرن الحادي و العشرين الموسوم بانبثاق قواعد و آليات جديدة
لاقتصاد جديد قائم على التطور الهائل و السريع لتقنيات الإعلام و المعلومات
و الاتصالات ( الأنترنيت، البريد الإلكتروني، التلفزيون، الراديو...) التي
تثير تحولا سائرا في إلغاء الحدود الثقافية بين الشعوب و الأقطار. فمع
المد الثقاعلي للصورة الرقمية و قابلية تحقق الواقع الافتراضي التفاعلي، و
تواتر ابتكار العمليات و البرمجيات صرنا محاطين بإمكانات إبداعية لا حصر
لها في دائرة الفنون التكنولوجية و التقانية (تكنو آر). و مثلما تعددت
الوسائط تعددت الأشكال التعبيرية و الأدائية الطلائعية (الفوتوغرافيا،
الصورة، المنشأة التفاعلية، البرفورمانس، Installation الرقمية، أعمال
الفيديو الثلاثية الأبعاد، التراكيب السينوغرافية، المنشأة الهابنينغ...)،
فيما تداخلت الأجناس الإبداعية فيما بينها، ذلك أن " هذا الانتقال عبر
الرقمية الثنائية قد مسّ في الآن نفسه الصورة و النص ليجمع بذلك المهندس و
الباحث و الكاتب و التقني و الفنان تحت ناظم مشترك " كما يؤكد رجيـسدوبريه
(1).
ما موقع نظامنا التعليمي العام من هذه
التغيرات التي قلبت القوانين السياسية و السوسيواقتصادية و الثقافية؟ في
المجتمع العربي يرى الأستاذ محمد عابد الجابري أن اندماج التعليم " قد أفرز
– و كان لابد أن يفوز – صنفين من النخب: نخبة "عصرية " أوروبية و أمريكية
التكوين و الميول و الرؤية، غريبة عن المحيط العربي و التراث، و نخبة "
تقليدية " تراثية التكوين و الميول و الرؤية، غريبة عن العصر الذي تعيش فيه
" مضيفا أن " هذا الانشطار على صعيد النخب راجع إلى انشطار مماثل على صعيد
التعليم و الثقافة بصفة عامة " ليخلص إلى أن " التعليم السائد اليوم في
الوطن العربي إما تعليم تقنوي ( تكنولوجي، و ضمنه العلوم " الحقة " ) يصنع
عقولا قانونية دوغمائية، و إما تعليم ميثولوجي تلقيني يصنع عقولا راكدة
أسطورية " (2) مشيرا إلى أن مهمة التعليم تكمن في أن يغيّر لا أن يندمج.في
بلدان شمال أفريقيا حيث لا تحظى الفنون الجميلة بالأهمية المتوخاة، لتكون
ضمن الأسس التعليمية، إلى أي حدّ استطاعت أو تستطيع معاهد و مؤسسات التعليم
الفني التي لا تخرج في مجملها عن إفراز الصنف " التقليدي " من النخب، أن
تواكب هذا التطور الجارف، بحيث تعمل على تكوين طلبة يمتلكون أدوات و معارف
السوق الجديدة ومتطلباتها بعد تخرجهم؟ أكان هؤلاء الطلبة سيمتهنون الفن
بمعناه الصرف، أو سيمتهنون الفن النافع بمعنى الصناعات القائمة على المعارف
و المهارات الفنية، أو هما معا، حيث الإبداع بمعناه الواسع رديف للصناعة.
هل تفكر هذه المؤسسات في إخضاع أطرها
التربوية للتكوين المستمر، و هل تفكر في التعديل المتعاقب للبرامج
الموازية لتكييف المناهج بحسب مستجدات العصر السريعة؟ إذا " كان القرن
التاسع عشر عصر الإيديولوجيات السياسية و الاجتماعية، و كان القرن العشرون
عصر العلم و التحليل العلمي، فإن القرن الحادي و العشرين سيكون عصر ما بعد ؛
و فيه سيلعب الذكاء الإنساني الدور الأكبر في إعادة تصميم النظم
الاجتماعية و الاقتصادية Post industriel الصناعةو السياسية؛ و الإنسان هو
صانع هذا كله " (3). من ثمة لا تتسنى مواجهة العصر الجديد بمبادئ تعليمية
قديمة عاجزة عن مسايرة التطورات العلمية و التكنولوجية المرفقة بأجواء
اجتماعية حديثة، لذلك تنبغي إعادة نظر جذرية في البرامج الأكاديمية التي
صارت تقليدية، السائدة في المدارس و في مختلف مؤسسات التكوين الفني، ليتم
تجاوز الطابع المدرسي الضيق للتربية، في اتجاه " حوسبة النظام التعليمي "، و
توسيع نطاق الحرية المدعوم بخلق الأرضية المناسبة لمضاعفة الطاقات
الإبداعية و شحذها للتمكن من السيطرة على المشكلات و حلها، خاصة و أن سوق
العمل ( الصناعي و التجاري و المعلوماتي ) أضحى يتطلب " أربع كفايات
أساسية: القدرة على التفكير و حل المشكلات، تحويلات إبداعية في إنتاج السلع
و التصاميم، ثروة لغوية غنية مبنية على فهم عميق للغة و الأحوال الإنسانية
التي تمثلها، تدريب جيّد في تكنولوجيا المعلومات " (4). يتعلق الأمر إذن
بقدرات و كفاءات تعليمية جديدة، إلا أن هذه المكتسبات، و حتى على مدار
المسار المهني، تحتاج إلى مصاحبة التطورات المتعاقبة لفتح منافذ التطلعات
والخيارات المتعددة. من هذا الباب يتأكد وجوب تطوير الملكات في برامج
التعليم، و خاصة منها تلك المتعلقة بالقدرة على مواصلة التعليم و الإقبال
عليه كما يرى ليدبيتر)، إذ يجب على التعليم أن يستثير توقا للتعلّم، بدلا
من تقديم معرفة صارمة في بيئة تحت Leadbeater(1999 السيطرة (5).في هذا
المنحى، كان لابد من إيجاد الحلول والبدائل المواتية لمواجهة الاقتصاد
الجديد القائم على عولمة ليبرالية جديدة، لتتوجه السياسات و البرامج
التعليمية نحو التسليم بفعالية " الانتقال من الفنون و الثقافة إلى
الصناعات الإبداعية "، باعتبار فكرة الصناعات الإبداعية تسعى إلى " توضيح
التقارب المفاهيمي و العلمي بين الفنون الإبداعية ( الموهبة الفردية ) و
الصناعات الثقافية ( النطاق الجماهيري )، في إطار تقنيات إعلام جديدة داخل
اقتصاد معرفة، يستخدمها مواطنون – مستهلكون تفاعليون جدد " (6). ففي تلقين
آليات الإعلام التفاعلي الجديد و إدراك قواعده، يكمن أساس التعليم الذي
يروم إدماج خريجيه في الصناعات الإبداعية التي تمنحهم فرص الشغل بطرائق غير
مباشرة، من خلال ابتكار أفكار جديدة و اقتراح مشاريع و خدمات و منتوجات،
مع إمكانية تغيير نوع الصناعة، و التعاون مع فريق قابل للتغيير و اختيار
النمط الذي يناسب تنفيذ إبداعاتهم و تحقيق أهدافهم التجارية. و من داخل
ديارهم يشتغل المهنيون المبدعون بشكل ذاتي، بوصفهم " مراسلين إلكترونيين ".
و في سلاسة إبرام حلقات التعاون، و التداخلات المنبنية على الثقافات
المتعددة، يتّضح تميز هذه الصناعات بقابلية المشاركة المنفتحة، السائرة في
منح الخيارات التي تجعل من المستقلين يتحلّون " بقيم فردية، لكنها تمارس
بأعلى قدر من التعاون. و شبكاتهم التعاونية تعد درسا أمام القطاعات الأخرى
بتقديمها لأشكال أكثر تشبيكا من التنظيم " (7). وفي هذا التوجه الذي يعمل
باستمرار على توسيع الانضمام إلى السوق العالمية الجديدة نلامس الانفتاح
الذي يؤكد " رؤية النجاح في التعاون لا في رؤوس الأموال و المشروعات
الضخمة، غير أن هذا يحتاج إلى بيئة و تعليم يدعمان الفكرة "(8).
تبقى الفنون المعاصرة بإمكاناتها
التعبيرية و ثرائها الجمالي، مرجعا أساسا في تطوير الصناعات و المنتجات، و
في استلهام أنماط التعليب و التقديم و تصميم السلع و أساليب الإعلان، بحسب
الفئات و الأذواق و التقليعات... فمن هنا تتجلى تدخلات الأساليب الفنية
الراقية، حيث يشتغل الفنان باعتباره " أخصائي جماليات يلتقط و يستثير
التوقعات الحسيّة لدى المستهلكين المستهدفين " (9). في حين تتأكد مدى أهمية
الفنون البصرية في قواعد اللعبة التجارية، إذ صارت " سوق الفن البصــرية
سوقا احتكاريـة تنظمها الآليــات المسيطــرة على الحيــاة الفنية
العالميــة " كما يقول ريــموند مولان (10)، فيما تظل الفنون البصرية من
أكثر الإنتاجات الفنية استجابة لشروط الانتشار التي تمليها Raymonde
Moulin، مما يجعل " بعض قطاعات عالم الفنون البصرية لا تعرف الاستقرار،
Digitalisation العولمة الاقتصادية و الرقمنة شأنها في ذلك شأن بورصة
الأوراق المالية التي تتبادل فيها الأيدي أموالا طائلة " (11)، ذلك أن
المسألة الإبداعية عموما لم تعد تتعلق بالتكتلات الثقافية و الصناعية و
المؤسسات المصرفية فحسب، بل أضحت تدخل في صلب اهتمامات و سياسات العواصم
الاقتصادية و توجّهاتها الجديدة. فبالإضافة إلى كون مدن مثل نيويورك و
طوكيو و لندن تنمي نشاطها بوصفها مراكز رئيسة في الاقتصاد العالمي و مراكز
للمال و الخدمات، فإنها تخطط استراتيجيتها باعتبارها مواقع إنتاج).Sassen
بما في ذلك الإبداع، و أسواقا للمنتجات و الابتكارات ( ساسكيا ساسن 1991
لعل هذه التوجهات الجديدة، أمست رديفة
للمعارف الفنية و الجمالية لدى العمال المبدعين الذين يجدون أنفسهم مرغمين
باستمرار على استيعاب قواعد بيئية عالمية جديدة، سرعان ما تتبدل قوانينها
العلمية و الثقافية و التقنية التي باتت تحكم)، حيث تنبغي ملامسة البيئة
العالمية المتشابكة، و فهم Global Web (الاقتصاد الجديد المنبني على
العنكبوتية العالمية التداخلات التي يمكن أن تجمع بين أكثر من حساسية
فنية و علمية و صناعية، و توحّد بين أكثر من قطر في صناعة منتوج إحادي؛
فتصنيع سيارة رياضية مثلا " يموّل من اليابان و يجري تصميم السيارة في
إيطاليا و تجمع أجزاؤها في أنديانا أو المكسيك أو فرنسا و تدخل في بنائها
أجهزة كهربائية متطورة مخترعة في نيوجيرسي. فإذا اكتملت السيارة أعيد
تصديرها إلى اليابان على أنها سيارة إيطالية. هذا الواقع الدولي الجديد يجب
إن تعرفه و تقدره أجيالنا الجديدة لأنه سيؤثر في تقرير مصيرها الاقتصادي و
الاجتماعي " (13).
بناء على كل ما سبق، تتضح رؤية الصناعات
الإبداعية التي برهنت على أهمية عائداتها التي قدرت ب 2,2 تريليون
)Howkins دولار أمريكي على مستوى العالم في 1999، فيما تشكل 7,5 من إجمال
الناتج القومي (هاوكينس 2001(14)، و عليه نفهم لماذا تدار برامج الجامعات و
المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية كما لو كانت مشروعات استثمارية
(15). من ثمة أصبحت الصناعات الإبداعية تعتبر من مقومات قوة العمل، المشفوع
بأنماط الشغل المستقل،المتطلع لمختلف الخيارات التي تستدعي معارف و مهارات
و كفايات تعليمية مستحدثة تمنح تأهيلا شاملا يسمح باتخاذ المبادرة و إنضاج
الملكات و المواهب، كما يتيح التعامل الجماعي المرن و الالتفاف حول عمل
المشروع المدعوم بروح الفريق، و بالبعد التعاوني الذي يخلق الإحساس
بالانتماء و يساهم في تفعيل تماسك اجتماعي يقوم على التحدي و التشارك و
التيادل و التعاقد، و على التلاقي المثمر، حيث يمسي " مجتمع الشبكة كشكل
سائد للتنظيم "، ويمسي " فهم الفن كممارسة لا تتعارض مع القدرات الإنتاجية
لاقتصاد عالمي مدعوم بالتكنولوجيا " (16).
إذا صح الحديث عن " صناعة فنية محلية "
في المغرب، فإنها مرهونة بعدد لا يستهان به من الأطر الأجنبية التي تشتغل
لحساب مؤسسات الإنتاج على اختلافها، إذ تقوم بتصميم السلع و المنتجات و
أشكال التعليب، كما تصمّم أساليب الإعلان و الإشهار و تقدم الخدمات... هذا
الوضع يدفعني لأضم صوتي لصوت الباحث الجمالي موليم لعروسي: لماذا لا نطوّر
تعليما فنيا نافعا نابعا من تربيتنا و من مخيالنا، و نكون بذلك قد حرّرنا
إبداعنا و فتحنا أبواب الشغل لأبنائنا(17).
في الوقت الذي يظل فيه التكوين الفني
عندنا، مقطوع الصلة بمنظومة وزارة التعليم العالي، و في الآن الذي يضيق فيه
أفق الدولة إزاء مشكلة البطالة لتعلّق آمالها على تشجيع المقاولة، الصّعبة
المنال، فإن القرار السياسي الذي يحسم في إحداث تعليم فني جامعي يشرك بين
الفني و النفعي و التكنولوجي، يمكن أن يفتح أفقا لإنعاش " الصناعات
الإبداعية " بوصفها منفذا من منافذ التشغيل، مادامت تتيح للفرد إمكانية
العمل الذاتي المستقل، دون الحاجة إلى الانتماء المؤسساتي بالمعنى الوظيفي.
** تشكيلي و ناقد فن، المغرب
هــوامـــش:
(*) يتعلق الأمر- في الأصل- بالمداخلة التي ساهمت بها في سمبوزيوم " رهانات و شبكات الفن في عصر ما بعد المعاصرة "، نظمته الشقة 22، أيام 25-27 أكتوبر بالرباط و 29-30 أكتوبر 2007 بمراكش.
(1) ريجيس دوبريه، حياة الصورة و موتها، ترجمة: فريد الزاهي، أفريقيا لشرق، الدار البيضاء، 2002، ص 277.
(2) محمد عابد الجابري، " مهمة التعليم: أن يغير لا أن يندمج! "، المغربية، ع 6792، 20-21 أكتوبر 2007.
(3) محمد جواد رضا، " العرب و التربية في القرن الجديد التحدي الصعب و الاستجابات الممكنة "، مجلة العلوم التربوية و النفسية، كلية التربية - جامعة البحرين، المجلد 1، ع 1، دجنبر 2000، ص 180.
، ص 181. Ibid (4)
(5) جون هارتلي، الصناعات الإبداعية
- John Hartley , Creative Industries
- ترجمة: بدر السيد سليمان الرفاعي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، ج 1،
ع 338، أبريل 2007، ص 11.
، ص 12. Ibid (6)
(7) جون هارتلي، الصناعات الإبداعية، ترجمة: بدر السيد سليمان الرفاعي، المجلس الوطني للثقافة و الفنون، الكويت،
ج 2، ع 339، ماي 2007، ص 116.
، ص 34.Op – Cit(8) جون هارتلي، ج 1،
(9) جوست سمايرز، الفنون و الآداب تحت ضغط العولمة
- Joost Smires, Arts under pressure (Promoting
cultural diversity in the age of globalization)
ترجمة: طلعت الشايب، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ع 909، 2005، ص 103.
، ص 98. Ibid (10)
، ص 31. Ibid (11)
، ص 61. Ibid (12)
، ص 183.Op – Cit(13) محمد جواد رضا،
، ج 2، ص 167.Op – Cit(14) جون هارتلي،
، ج 1، ص 258.Op – Cit(15) جون هارتلي،
، ج 1، ص 17.Op – Cit(16) جون هارتلي،
(17) موليم لعروسي، " مشكلة التعليم الفني بالمغرب "، عالم التربية، الدار البيضاء، ع 11، 2001، ص 41.
0 التعليقات:
إرسال تعليق