د. حسن يوسفـي المسـرح والتلقـــي
الزيارات:
الزيارات:
د. حسن يوسفـي المسـرح والتلقـــي
|
1 - التلقي مفارقـة مسرحيـــة:
لامناص من الإشارة، بدءا، إلى أن كل حديث عن إحدى القضايا المتعلقة بالمجال المسرحي لابد أن يقود صاحبه نحو معالجة المفارقات المتعددة لهذا الفن. وهذا الطابع المفارقي «Aspect paradoxal» للمسرح لا يتوقف عند مستوى اللغة - الموضوع (الإبداع المسرحي) وإنما يتعداه نحو الميتالغة (النقد المسرحي). وتعد مسألة التلقي إحدى أهم المفارقات الأساسية للخطاب الميتالغوي المؤسس حول الخطاب المسرحي. فإذا كان النقد المسرحي قد اهتم، على الدوام، بالقراءة المحايثة للعمل المسرحي، فإنه قد همَّش دور المتفرج مع العلم أنه لا وجود للمسرح بدون متفرج. في هذا الإطار يقول باتريس بافيس Patrice Pavis: «لقد شكل العمل المسرحي على الدوام موضوع تحليل خيالي محايث أكثر اندفاعا، هذا التحليل الذي كشف، على الأقل، ميكانيزمات تركيبه واشتغاله، وعلى العكس، يبدو أن مسألة تلقيه من لدن المتفرج قد همشت كليا، ماعدا التطهير المشهور أو ضده البرشيتي، أي التغريب. هنا تكمن مفارقة النقد المسرحي: فالمسرح يتطلب، أكثر من أي فن آخر بواسطة ممثليه، وساطة فعالة للمتفرج أمام العرض، كما أنه لا يوجد إلا في حدث التجربة الجمالية ومع ذلك، فصيغ التلقي وصيغ العمل التأويلي حول الفرجة غير معروفة بشكل جيد»[1].
إن الاهتمام بالمتلقي ظلَّ، إذن، بمثابة بنية غائبة ضمن المقاربات المتعددة التي ترتبط بالمسرح والتي يمكن القول عنها أنها لم تتعد حدود جمالية الإنتاج لبلوغ جمالية التلقي.
إلا أن هذه المفارقة سرعان ما سوف تزول مع ظهور الاهتمام بالمتلقي ودوره في العملية الإبداعية خصوصا خلال العقدين الأخيرين حيث ظهرت بعض الأبحاث والنظريات التي تهتم بالمتلقي وبدأنا نقرأ بعض العناوين مثل «دور القارىء» (أمبرتو إيكو، Umberto Ecco, 1980)،«مدرسة المتفرج» (آن أوبرسفيلد، Anne Ubersfeld, 1981)، «عمل المتفرج» (عنوان أحد فصول كتاب ماركودو مارينر Marco De Marinisحول سيميوطيقا المسرح، 1982)، «العلاقة المسرحية» (نصوص لباحثين جمعها رجيس دوران Régis Durand سنة 1980)، ناهيك عن بعض المجلات التي خصصت عددا من أعدادها لهذه القضية. ونذكر منها على الخصوص العدد الخاص عن «النص وتلقياته» من «مجلة العلوم الإنسانية» (العدد 189 - السنة 1983). بل وقبل الثمانينات وبالضبط خلال سنة 1973 خصَّصَ ريشار دومارسي Richard Demarcy الفصل الخامس من كتابه «مبادىء سوسيولوجيا الفرجة» لمسالة التلقي حيث عنونه بـ «أشكال تلقي الفرجة». وفي سياق هذا الاهتمام سوف تظهر في ألمانيا مدرسة كونستانس التي عرفت بنظريتها حول جمالية التلقي والتي يعد هانز روبير ياوس Hans Robert Jauss قطبها الرئيسي.
إن هذا الاهتمام بالمتلقي قد انعكس بشكل واضح على الدراسات المسرحية خصوصا وأن المسرح كان مؤهلا لاستقبال مثل هذا الاهتمام نظرا لطبيعته كفن مرتبط أشد الارتباط بالمتفرج. لقد أدرك الدارسون للمسرح أن دراسته من منظور جمالية الإنتاج يعطي تصورا ناقصا عنه، لأن المسرح هو الفن الذي تتحقق فيه أكثر تلك العلاقة الجدلية بين ما هو إنتاجي «Productif» وما هو تقبلي «Receptif». وقد عبَّرَ بافيس عن هذا الموقف قائلا: «إن الإنتاج لم يتحقق أبدا دون منظور متلق، كما أن كل فعل تقبلي يتطلب معرفة سيرورة الإنتاج. في المسرح، لا يغامر، حقيقة، أي مبدع بكتابة نص أو بناء فرجة دون أخذ الشروط الملموسة التي يتوصل فيها الجمهور إلى العمل المقترح، بعين الاعتبار»[2].
2 - نظريات التلقـي المسـرحي:
انطلاقا من هذا التصور الجديد المتمثل في الاهتمام بالمتلقي الذي نجد له جذورا وإرهاصات عند أرسطو من خلال مفهومه عن التطهير، كما نجد له مظهرا آخر عند بريشت، من خلال نظريته حول التغريب - ظهرت طروحات، وقراءات متعددة المشارب تمتح من أطر مرجعية فلسفية أو علمية أو جمالية في إطار دراستها للعلاقة المسرحية بين صانع الفرجة ومتلقيها. فمنها من اعتمد على معطيات التحليل النفسي الفرويدي، وخصوصا منه مقولة النفي «Dénégation» كآن أوبرسفيلد، ومنها من تبنى طروحات جمالية كباتريس بافيس، ومنها من عالج المسألة من منظور فينومينولوجي كأندري إيلبو، ومنها من درسها في ضوء البسيكو-سوسيولوجيا كريشارد شيشنر، ومنها من اعتمد على معطيات علم النفس المعرفي كماركو دومارينيز، ومنها أيضا من استند على معطيات علم الاجتماع وعلم النفس وسيميولوجيا الفن كريشار دوماسي. ونظرا لأهمية هذه المقاربات سنحاول الاستفادة منها في معالجة إشكالية التلقي في المجال المسرحي.
2 - 1 - دومارسي والقراءة المزدوجـة:
فريشار دومارسي الذي تعود محاولته إلى سنة 1973 - كما سبق الذكر - يميز في كتابه «مبادىء سوسيولوجيا الفرجة» بين نموذجين لتلقي الفرجة: يسمى أولهما بالقراءة الأفقية «Lecture Horizontale»، والثاني بالقراءة العرضية «Leccture transversale». فالقراءة الأفقية تتميز بكونها نموذجا تقليديا للتلقي عند المتفرج تعتمد بالأساس على «الانتظار المتلهف للنهاية»، أي النهاية السعيدة «Happy End» المصحوب بتورط جد قوي في الحدث. في هذه الحالة، يكون اهتمام المتفرج منصبا أساس على الحكاية بتغيراتها وتسلسلاتها الخفية ونهايتها المتوجة بالتطهير -التحرر في نهاية المطاف»[3]. بالإضافة إلى هذا الانتظار هناك أساس آخر يستند عليه هذا الشكل التقليدي للتلقي يسمح باشتغال الانتظار بشكل ما ويتجلى في الاندماج في شخصية ما، هذا الاندماج الذي يصل أقصى درجاته عندما يتعلق الأمر ببطل يتميز بمجموعة من الصفات المثالية كالقوة والشجاعة والتضحية وغيرها.
أما القراءة العرضية، فهي تقترب في طابعها العام - في نظرنا - من مفهوم القراءة العالمة كما حدَّدَها عبد الفتاح كيليطو في كتابه «الأدب والغرابة»، خصوصا وأن دومارسي يرى أن المتفرج في إطار هذا النوع الثاني من التلقي لا يتورط داخل الحكاية بل يتحول إلى ملاحظ يطرح السؤال حول كل عناصر الدلالة التي تظهر في العمل، حول ماهيتها ومعناها ومصدر هذا المعنى، محققا بذلك قراءة غير متصلة «Lecture en discontinuité». وباستناد دومارسي على السيميولوجيا في معالجته لمسألة التلقي، يرى أن هذه القراءة العرضية باعتبارها شكلا للتلقي لابد أن تنطلق أساسا من تحديد الموضوع الذي تقرأه أولا والذي هو المسرح. وعليه، يتحدَّدُ هذا الفن باعتباره عالما من العلامات وفنا مسنَّناً «Art du code». واستنادا على هذا التحديد تتحول القراءة العرضية إلى فك وتحليل للعلامات السمعية والبصرية للفرجة المسرحية. وهذا الاشتغال على العلامة هو الذي يجعل من هذه القراءة الثانية قراءة منتجة للتغريب «Distanciation» على عكس القراءة الأولى التي هي قراءة اندماجية. ومن أجل إضفاء البعد السوسيولوجي على تصوره، يرى دومارسي أن فك رموز وعلامات الفرجة يتم من خلال إحالتها على المجتمع لأن معناها لا يتأتى ضمن العمل في حد ذاته، وإنما ضمن العلاقة بين العلامة والمجتمع الذي ينتمي إليه المتفرج، لهذا فالرجوع إلى الحقيقة السوسيو-ثقافية كإطار مرجعي للعلامة يعد مرحلة أساسية ضمن القراءة العرضية.
2 - 2 - أوبرسفيلـد: النفي في المسـرح:
وإذ انتقلنا إلى موقف آن أوبرسفيلد وجدنا أنها تنطلق في دراستها للعلاقة المسرحية من معطيات فرويدية حيث تدرس كيفية اشتغال عملية النفي في المسرح. تؤكد، أولا، أن المسرح هو الفن الأكثر واقعية وتنتج عن هذه الخاصية مفارقة تتجلى في تحوله إلى مصدر للإيهام وتعرضه للنفي في الآن نفسه، وتعتبر عملية النفي بمثابة عملية نفسية ضرورية بالنسبة للمتفرج لكي يميز بين واقع الفرجة المسرحية والواقع اليومي الحقيقي. وتعتمد هذه العملية - في نظر آن أوبرسفيلد - على قاعدة أساسية هي التحليل المنطقي. بمعنى أنها عملية عقلية تتجلى في كون المتفرج عندما ينفي عن كل ما هو معروض ومقول فوق الخشبة كونه حقيقيا وصحيحا، فإنه يثبت أن ما هو يومي وواقعي ومرتبط بحياته العادية هو الحقيقي.
وهناك إشكال تطرحه قضية النفي هذه، يتعلق بالحكم الذي يصدره المتفرج على الفرجة والإطار الذي يضعها فيه. لحل هذا الإشكال تستند أوبرسفيلد مرة أخرى على فرويد الذي يؤكد أن النفي حكم واع مهمته إسناد خاصية معينة لشيء ما والاعتراف بوجود تمثيل ما داخل الواقع أو رفضه.من ثم يستنتج أن ما يقوم به المتفرج هو رفضه الاعتراف بالوضع الواقعي للفرجة المسرحية رغم أنه يعرف أنها نوع من الواقع. في هذا الإطار تتحدث أوبرسفيلد عما تسميه مفارقة المحاكاة «Le paradoxe de la Mimesis» وتتمثل في أنه «كلما كانت المحاكاة جد تامة، «واقعية» أو«احتمالية» كلما قل الاعتقاد بها كما هي، وكلما قلت إمكانية الالتباس بالواقع»[4]. وتتجلى أهمية هذه المفارقة في كونها تثير لدى المتفرج ما يسمى بلذة المحاكاة «Le plaisir de la Mimesis»، وذلك لكون المتفرج يعيش لحظات من التعالي في علاقته بالفرجة حيث يحس بما حوله كما لو أنه واقعي لكنه يعرف في الآن نفسه بأنه ليس حقيقيا.
ولكي توضح أوبرسفيلد جيدا طبيعة النفي في المسرح، تميزه عن مفهوم آخر هو الإنكار Désaveu حيث تقول: «ما يقوله النفي هو: ما أراه، سواء كان حلما أو فرجة، جد واقعي إلا أنه ليس حقيقيا. إن ذلك مفروض علي إلا أنه لا يستطيع أن يخبرني عن الواقع، عن الطريقة التي يسير عليها العالم والتي يمكن أن أسير عليها ]...[ إن طريقة اشتغال الإنكار شيء آخر إنه يقتضي القول: لم أر ما رأيته. لقد رأيت شيئا ما، إلا أنني ربما قد أخطأت، وفوق كل هذا لا أريد أن أكون قد رأيت»[5].
لتبيان موضع النفي داخل الفرجة المسرحية، ترى الباحثة أن النفي لا يطال كل العلامات المسرحية بقدر ما ينتقي العلامات الإيقونية «Signes iconiques». إن ما ينفى، إذن، هو الطابع الإيقوني للعلامة وليس حضورها الواقعي. فالممثل باعتباره مجموعة من العلامات (خطاب، حركات، إيماء، إلخ.) لا ينفي المتفرج حضوره الواقعي كممثل - لأنه موجود - وإنما ينفي ممارسته التخييلية التي تريد أن تلتبس بالواقع. إن هذا التصور الذي طرحته أوبرسفيلد يثير إشكالية تتعلق بثنائية التمسرح / النفي. يمكن صياغتها كما يلي: كيف يتعامل المتفرج مع علامات التمسرح داخل الفرجة انطلاقا من هذه العملية النفسية المتمثلة في النفي؟ وكيف يتحدد النفي انطلاقا من علاقته بنمط من أنماط التمسرح؟
إذا كانت ديناميكية العلامة هي أساس التمسرح في العرض فكيف يتحدد موقف المتفرج إزاء هذه العلامة مع العلم أن آن أوبرسفيلد تؤكد أن الجانب الذي يخضع للنفي هو الجانب الإيقوني، أي الأكثر محاكاتية، إن صح القول؟ في هذا الإطار تتحدث، هي نفسها، عما تسميه بـ «تأرجح النظر» - أي نظر المتفرج - بين المواضع الحساسة للتمسرح والمواضع الخاضعة للنفي وتعتبر أن «حركة التأرجح هذه مميزة للاشتغال المسرحي نجدها في أشكال العرض لكن بصيغ مختلفة»[6].
يستخلص من هذا أن شكل النفي يتحدد حسب شكل التمسرح، أي كلما كانت الفرجة أكثر محاكاتية، وكلما كانت علاماتها أكثر إيقونية، وكلما كانت أكثر اقترابا من الواقع، كلما كانت أكثر خضوعا للنفي من لدن المتفرج (الاتجاه الطبيعي «Naturalisme»). وبالمقابل كلما كانت الفرجة المسرحية ضد - محاكاتية، كلما قلت إمكانية نفيها، وفي هذا السياق تندرج أشكال الفرجة الحديثة خصوصا منها تلك التي رفضت مفهوم المحاكاة الأرسطي وأكدت على التمسرح. فوق كل هذا تبقى حالة التمسرح المضاعف، أو ما يعرف بالمسرح داخل المسرح، ذات خصوصيات فيما يتعلق بكيفية تلقيها ونفيها، خصوصا وأن المتفرج يجد نفسه أمام لعب مسرحي من مستويين: مستوى المسرحية الدامجة 1، ومستوى المسرحية المدمجة 2. في هذا النوع من المسرح يتلقى المتفرج ثلاث إرساليات - كما ترى أوبرسفيلد - يمكن صياغتها رمزيا كما يلي - مع العلم أن علامة (-) تدل على الإرسالات المنفية في حين تدل (+) على عكس ذلك -:
1 - الإرساليات: - أ، - ب، - ت: (مباشرة من المسرحية 1).
2 - الإرساليات: +ج، +ح، + د (غير مباشرة، من المسرحية 2 إلى المتفرج عبر المسرحية 1).
3 - الإرساليات: - ج، - ح، - د (مباشرة من المسرحية 2).
إن ما يستنتج من تصور أوبرسفيلد هو أن شكل التلقي - على الأقل في أحد أبعاده النفسية كما هو الشأن هنا بخصوص النفي - يتحدد أولا حسب شكل التمسرح، وبالمقابل فإن طبيعة التلقي المحددة هنا في النفي أو عدمه بإمكانها أن تبين إلى أي حد استطاعت الفرجة إنتاج علامات التمسرح والابتعاد عن العرض المحاكاتي.
2 - 3 - بافيس: جماليـة التلقـي المسـرحي:
وإذا انتقلنا إلى تصور باتريس بافيس نلاحظ أن منطلقاته جمالية محض تحاول استثمار ما توصلت إليه جمالية التلقي وتكييفه مع طبيعة الإبداع المسرحي في بعديه، النصي والفرجوي، لذا يحاول، منذ البدء، إزالة اللبس الذي يمكن أن يكتنف مفهوم التلقي، وذلك من خلال التمييز بين نوعين من التلقي. فهناك «تلقي المتفرج للفرجة والنص المؤدى. إنها وضعية تواصلية ملموسة وإحدى شعب الجمالية تقتضي وصف العمليات النفسية والشروط الاجتماعية لهذا الإرسال. فمعرفة العمل المرسل بهذا الشكل، بطبيعة الحال، ومعرفة طاقات معناه ضرورية لفهم هذا التلقي الفردي، ويضاف، من جهة أخرى، لهذا التلقي المحسوس والفردي دراسة تلقي نفس العمل في عدة عصور مختلفة، وبالتالي وفق انتظارات ونماذج إيديولوجية متنوعة. فبهذا النوع من التلقي (تاريخ التلقي أو جمالية ‘’الأثر المنتج‘’) تهتم نظرية التلقي في ألمانيا»[7].
داخل هذا الوضوح المنهجي والنظري حاول أن يشتغل بافيس، فكان منطلقه هو انتقاد التصور الأول الذي يربط التلقي المسرحي بنظرية التواصل معتبرا أن هذا التصور يعتبر الفرجة إرسالية بين مرسل ومرسل إليه، ويختصر أبعادها في معطيات نفسية أو سوسيولوجية. يقول: «إن مقاربات نظرية الإخبار أو سيميولوجيا التواصل تعتبر الفرجة غالبا كإرسالية مكونة من إشارات مرسلة بقصدية من الخشبة إلى متفرج متموضع ضمن وضعية مفكك للرموز «Cryptanalyste». إن هذه التصورات جد ضيقة، بل خاطئة قطعا. فمن جهة - وبدون إقحام أسطورة المبدع العبقري - الذي - لا - يعرف ماذا - يفعل - إن الخشبة ليست مصدر معلومات مسننة كإرسالية تلغرافية أو كتواصل شفوي استعمالي عادي، ومن جهة أخرى، فإن الخشبة تبقى رسالة ميتة بدون الالتزام الهرمنوطيقي للقاريء - المتفرج»[8].
وعلى أنقاض هذا التصور سوف يبني بافيس موقفه المستوحى أساسا من اجتهادات جمالية التلقي حيث سيركز، بالخصوص، على بعض المفاهيم الأساسية كأفق الانتظار «Horison d’attente»، وقضية السؤال - الجواب في إطار علاقة النص بالمتلقي. إلا أن المفهوم الذي سيستأثـر باهتمامه أكثر - نظرا لانسجامه مع طبيعة السيرورة الإنتاجية المسرحية التي تبدأ بالنص وتنتهي عند المتلقي/المتفرج - هو مفهوم التحقيق«Concrétisation».
فإذا كان يعترف بأهمية أفق الانتظار كمقولة أساسية يفكر بواسطتها في العلاقة بين العمل الفني ومتلقيه، وفي ربط هذا العمل بقاعدة أو بمعيار أدبي وإيديولوجي معين، إلا أنه يرى أن مكانها الحقيقي هو المستوى الشامل للبنيات الأدبية، لذا تحتاج لاختبار آخر للانتظارات على مستوى الأعمال الفردية، ومن ثم يصفها - من خلال توظيف، واختيار تطبيقي على «لعبة الحب والمصادفة» لماريفو - بأنها غير كافية وجد عامة. فـ «في الواقع، هذا الأفق، في تحليلات الأعمال الخاصة، ليس مرسوما ومشكلنا داخل نسق أو شفرة جمالية إيديولوجية لانتظارات جمهورها. إن ما ينقص نظرية أفق الانتظار هاته، إذن، هو الشكلنة «Formalisation» على مستوى النماذج «المتحاورة» مع النص، بالإضافة إلى نسق سيميولوجي محدد بشكل كاف ومبنين من أجل إعطاء شفرة للانتظارات كما هو معلن عنها داخل النص المفكر فيه»[9]. إلا أن بافيس، في مقابل هذا، يبدي إعجابا كبيرا بمفهوم السؤال داخل العمل كأداة هرمنوطيقية، لذا حاول توظيفه في قراءة عمل ماريفو السابق ذكره.
وفوق كل هذا، يمكن القول إن اقتراب بافيس من إشكالية التلقي في علاقتها بخصوصية المسرح كنص وكعرض لم يتحقق، في الواقع، إلا من خلال ما سماه بـ «سلسلة التحقيقات Série des concrétisations». في هذا الإطار يقول: «لفهم تحولات النص الدرامي، على التوالي، مكتوبا، مترجما، محللا دراماتورجيا، ملفوظا من لدن الجمهور، ينبغي إعادة بناء رحلته وتحولاته ضمن تحقيقاته المتتالية»[10]. في إطار هذه التحقيقات المتتالية، يميز بين عدة مراحل يقطعها النص المسرحي قبل أن يصل إلى المتفرج، وهذه المراحل عبارة عن تحقيقات سماها على التوالي بـ: (1) نص الترجمة المكتوبة (2) التحقيق الدراماتورجي (3) التحقيق الركحي (4) التحقيق التقبلي.
إلا أن التحقيق الذي يهمنا في سياق حديثنا عن علاقة المسرح بالتلقي هو التحقيق الأخير الذي يعترف بدور المتفرج كعامل أساسي في تحقيق الفرجة المسرحية. في هذا الإطار، إذن، تطرح عدة أسئلة: كيف يتم تحقيق المتفرج للعمل المسرحي؟ وهل يتم التحقيق بنفس الشكل في كل أنواع وأشكال الفرجة المسرحية؟ وما هي الأسس أو الميكانيزمات التي ينبني عليها هذا التحقيق؟
إلا أن السؤال الأول يفضي بنا إلى تناول المسألة المتعلقة بدور المتفرج في علاقته بالفرجة، والسؤال الثاني يثير إشكالية مختلف أشكال العلاقة بين المتفرج والفرجة من حيث طبيعتها وشكل فضائها، أما السؤال الثالث فيزج بنا في عمق قضايا ذات طبيعة نفسية ومعرفية تتعلق أساسا بالميكانيزمات الانفعالية والإدراكية للمتفرج التي تشتغل أثناء عملية التلقي.
فبخصوص دور المتفرج، لا أحد يجادل في كون المسرح كفرجة يعد بمثابة وسيلة لإضفاء الطابع الاجتماعي «Socialisation» على العلاقات الإنسانية، ومن ثم فهو «لا يشرك المتفرج باعتباره متغيرا وإنما باعتباره ثابتا. فحضوره ليس اختياريا، بل إلزاميا»[11]، ومن ثم فلا وجود لمسرح حقيقي بدون متفرج وبالتالي بدون تلك العلاقة واللقاء المباشرين بين الممثل والمتفرج داخل آن - هنا العرض. فما قيمة عرض مسرحي في غياب العنصر الأساسي الذي من أجله أنتج هذا العرض؟!. إن المتفرج لا يساهم فقط في بناء المعنى وفي خلق الجو المسرحي، بل عليه يتوقف الاعتراف الحقيقي بالوجود المسرحي نفسه، إنه - إن صح القول - يخرج العمل المسرحي من مستوى الوجود بالقوة إلى مستوى الوجود بالفعل ودوره هذا لا يتحقق في إطار علاقة أحادية الاتجاه تسير من الفرجة نحو المتفرج، وإنما يتحدد أساسا كتفاعل. وقد حاول بافيل كامبيانو Pavel Campeanu تحليل مختلف هذه التفاعلات على المستويين الجمالي والاجتماعي.
بالإضافة إلى هذا، تختلف أشكال التفاعل حسب طبيعة الفرجة والفضاء المسرحيين. فشكل الفرجة وقواعد اللعب المسرحي تختلف من جمالية إلى أخرى حيث نجد جماليات مسرحية تنطلق من قاعدة محاكاتية تعمل على تكريس الإيهام، في حين نجد أخرى تعمل وفق التصور التغريبي البريختي، وهناك فرجات مرتبطة بنص درامي معين، في حين تعتمد أخرى على الارتجال وخلق النص من خلال العرض، وهناك أيضا نظريات تؤكد على ضرورة تعميق الهوة بين عالم الفرجة وعالم المتفرج، في حين تحاول أخرى تجسير هذه الهوة عن طريق مد قنوات مختلفة بينهما وتعترف بحق المتفرج في خلق الفرجة وبناء علاماتها.
وإذا أضفنا إلى هذا الجانب الفرجوي الجانب المتعلق بالفضاء وما يعرفه من تنويعات (قاعة إيطالية، مسرح دائري، فضاء مفتوج، اقتحام فضاءات اجتماعية ومسرحتها...) فلا مناص لنا من الاعتراف بأن شكل التفاعل بين المتفرج والفرجة سيتأطر لا محالة بهذين العاملين الفرجوي والفضائي.
في هذا السياق تؤكد مونيك لابوانت Monique Lapointe أن «التنظيم الفضائي للمكان المسرحي ومجموع القواعد المعروفة كلها ضمنيا لدى المتفرج والممثل، تؤطر الإرساليات المنقولة من الحدث، كما تؤطر التفاعل ممثل - متفرج»[12]. وبتأكيدها على هذا، تحاول تحليل العلاقة بين الممثل والجمهور والفضاء في فرجة تنشيطية «Spectacle d’Animation»، مبرزة الاختلاف والتقابل الموجود بين انتقال الممثل نحو فضاء غير فرجوي أصلا، أي ليس بمسرح، وبين الانتقال التقليدي للمتفرج نحو فضاء مسرحي حقيقي.
بقي علينا الآن أن نحدد نوعية الميكانيزمات التي تشتغل أثناء عملية التلقي المسرحي، هل هي انفعالية أم إدراكية أم هما معا؟ إن طبيعة الفرجة هي التي تحدد، في الحقيقة، نوعية الآليات التي تشتغل لدى المتفرج في لحظة التلقي. في هذا الإطار نورد رأيا يربط طرق الإدراك لدى المتفرج بطبيعة العلامات المسرحية يقول: «من المؤكد أن المسرح كفرجة هو لقاء بين علامات من طبيعة مختلفة (سمعية: شفوية - مغناة أحيانا، أصوات، موسيقى الصفر السمعي للصمت. بصرية: ديكورات أزياء، حركة، وضعية الجسد، تنقلات الممثلين، إلخ. وروائح أيضا، روائح الورق الممضوغ وصباغة الديكورات وبعض المواد المحروقة فوق الخشبة، إلخ.). إن التلقي يفرض، إذن، التوسل بطرق حسية - إدراكية: سمعية، بصرية، شمية، وربما بحساسيات عضوية متاخمة منطلقة بشكل غير مباشر»[13].
إن التلقي، وفق هذا المنظور ذو طبيعة حسية، أي مرتبط بحواس المتفرج المختلفة، إلا أن الغائب في هذا التصور هو كونه لم يوضح كيف نفرق بين التلقي العادي للإنسان في حياته اليومية والذي يعتمد على هذه الوسائل الحسية كما هو معروف، وبين التلقي المسرحي كتلقي فني وجمالي يتحدد من خلال تفاعل عالمين: عالم الخشبة بعلاماته المختلفة التي تندرج في إطار المتخيل وعالم المتفرج بمظاهره السوسيو-سيكولوجية المتنوعة الذي يندرج في إطار الواقعي.
2 - 4 - دومارينيز: تجربة المتفـرج بين الانفعـال والتأويـل:
في إطار هذه المحاولات المختلفة لضبط ميكانيزمات التلقي لدى المتفرج يدخل موقف آخر للباحث الإيطالي ماركو دومارينيز Marco De Marinis الذي ينطلق من نقد بعض الدراسات المسرحية التي سماها دراسات بعد - حداثية «Postmodernes» وخصوصا فيما يتعلق بموقفها من تجربة المتفرج. فهذه الدراسات تختصر هذه التجربة في ما هو انفعالي، أي أنها تعتبر الانفعال بمثابة التأثير الوحيد للفرجة على المتفرج، كما تعتبره ظاهرة مباشرة ومستقلة عن العمليات المعرفية الأخرى كالتأويل والتقويم والتذكر. إن هذه النظرية الانفعالية «Emotionnelle» تصدر في نظر دومارينيز عن رؤية ساذجة ورومانسية جديدة، لذا حاول بناء تصور مغاير حول تجربة المتفرج انطلاقا من قواعد نفسية ومعرفية صحيحة بلوره في إطار ما سمَّاه بـ«التصور السيميو-معرفي للتجربة المسرحية»، هذا التصور الذي يرفض التقابل بين ما هو انفعالي وما هو إدراكي، ويؤكد على أن«التجربة المسرحية باعتبارها تجربة جمالية ينبغي أن تفهم ]...[ كمجموعة معقدة من العمليات الإدراكية، التأويلية، الانفعالية، والتقويمية، إلخ. والتي تتداخل كلها وتتفاعل فيما بينها»[14].
إن ما يستنتج من هذا القول هو أن المتفرج - كيفما كان موقعه وعلاقته بالفرجة - ليس سلبيا كما أن تجربة التلقي لديه لا تنبني على معطيات حسية فقط، وإنما يتداخل فيها ما هو انفعالي وما هو إدراكي ومعرفي. وإذا حاولنا ربط هذه العمليات بطبيعة الفرجة المسرحية، لاحظنا أن المتلقي عند مشاهدته لعرض مسرحي يحاول تكوين بنية حكائية حول ما يجري أمامه والعمل على ربطها بالفضاء والشخصيات والزمان، كما يحاول تفكيك بعض العلامات وربط العلاقة بينها من أجل بناء المعنى، لأنه في غياب معنى ما يحس المتفرج وكأنه عاش نوعا من الانقطاع في اللذة «Coîtus Interreptus» ليس من طبيعة جنسية طبعا، وإنما من طبيعة جمالية وفنية.
3 - تركيــــب:
إن كل التصورات التي تحدثنا عنها، تختلف، إذن، من حيث منطلقاتها المعرفية فيما يتعلق بمسألة التلقي في المجال المسرحي، لكنها تتفق كلها على أهمية الدور الذي يلعبه المتلقي - المتفرج في علاقته بالفرجة المسرحية. إلا أن المسألة التي ما تزال في حاجة إلى البحث والدراسة هي المظاهر السوسيولوجية للتلقي التي من شأنها أن تقدم لنا صورة عن المتفرج في علاقته بشروطه الاجتماعية وتحاول القيام بنمذجة معينة لأنماط المتلقين وتبين إلى أي حد يتحقق فعلا ذلك التفاعل بين الفرجة ومتلقيها، مع ربط كل هذه الجوانب بمسألة الخصوصية حتى نستطيع أن نميز مثلا بين تلقي متفرج مغربي لفرجة غربية وبين تلقي متفرج غربي لفرجة عربية.
الهوامــش
[1] - Patrice Pavis, «Pour une esthétique de la réception théâtrale», in La relation théâtrale, P.U. de Lille, 1980, p. 28.
[2] - Patrice Pavis, Production et Réception au théâtre: La concrétisation du texte dramatique et spectaculaire», in Revue des Sciences Humaines, N° 189, 1983, p. 52.
[3] - Richard Demarcy, Eléments d’une sociologie du spectacle, Union Générale d’Edition, coll. 10/18, 1983, p. 52.
[4] - Anne Ubersfeld, «Notes sur la Dénégation théâtrale», in La relation théâtrale, op. cit., p. 13.
[5] - Ibid., p. 14.
[6] - Ibid., p. 13.
[7] - Patrice Pavis, «Pour une esthétique de la réception théâtrale», op. cit., p. 27-28.
[8] - Ibid., p. 29.
[9] - Ibid., p. 34.
[10] - Patris Pavis, Vers une spécificité de la traduction théâtrale: la traduction intergestuelle et interculturelle, Séminaire de Maitrise 1985/1986, Service des publications de la sorbonne nouvelle, Paris III, 1986/1987, p. 4.
[11] - Pavel Campeanu, «un rôle secondaire: le spectateur», in Sémiologie de la représentation, Editions complexes, 1975, p. 86.
[12] - Monique Lapointe, «La relation interprète/public/Espace au théâtre d’animation», in Approches de l’opéra, Didier Erudition, 1986, p. 213.
[13] - Tatiana Slama Cazacu, Reflexions sur la Dyade Terminologique ‘’Lisible/visible‘’ (le domaine du spectacle théâtral)», in Approches de l’opéra, Op. cit., p. 241.
[14] - Marco de Marinis, «Emotion et interprétation dans l’expérience du spectateur au théâtre (contre quelques mythologies postmodernes)», in Approches de l’opéra, Op. cit., p. 177.
|
بقلم الياس معاد
إسمـي الياس معاد مـن مواليـد سنـة 1989 ،بلـدي هـو المغرب، أهتم بمجال الفنون كلها بحكم مساري الدراسي و شغفي بالفنون السبعخريج الجامعة المتعددة التخصصات بورزازات شعبة التقنيات السمعية البصرية ; و السينما تخصص الصوت و الصورة خريج المعهد المتخصص في مهن السينما شعبة محرك آلياتي وكهربائي -أستاذ التعليم الابتدائي بورزازات -طالب باحث في المدرسة العليا للأساتذة بماستر التعليم الفني و التربية الجمالية بمكناسروابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |
0 التعليقات:
إرسال تعليق