اختر لون الخلفية المفضلة لديك

راهنا، لا أحد يجادل في أهمية التعليم الفني في تكوين الشخصية، وضرورته في تنمية الذكاءالإنساني والارتقاء بالحس والتذوق الفني، والتمكين للوعي البصري والجمالي، وكذا دوره في إشاعة روح الانفتاح والتنوع الثقافي والتواصل الحضاري، وإسهامه في تحقيق التوازن والتكامل في بناء الذات ومدها بالأدوات الكفيلة بإدراك المحيط الاجتماعي والمادي والبيئي ومختلف مظاهر الحياة العامة، وفعاليته في تعزيز القيم الإنسانية المشتركة وضمان نقاوة روحها الأصيلة ونقلها للأجيال القادمة. وبالطبع، فالمغرب لم يستدمج بعد هذه الاعتبارات والغايات ضمن فلسفته التربوية ومناهجه الدراسية والتكوينية، و لا يزال لحد الآن يفتقر لتصور شمولي أو مشروع تربوي واضح لتفعيل تدريس الفنون بمنظومته التعليمية، خصوصا وأنه لا زال سائرا في تبني سياسة الشح الدائم للإمكانات المالية المرصودة لهذا المجال منذ الاستقلال.

إلا أنه بالمقابل، يمكن القول بأن خريطة تدريس بعض المواد الفنية بالمنظومة التعليمية شهدت توسعا نسبيا، كما أدمجت ببعض مؤسسات التكوين التربوي، ويتعلق الأمر هنا بالفنون التشكيلية والتربية الموسيقية. كما أن بعض الوزراء والمسؤولين المتعاقبين على قطاع التربية الوطنية بذلوا مجهودات، وقاموا بمبادرات محمودة، واتخذوا قرارات مفيدة اضافة الى تضحيات العديد من الفاعلين، وذلك من اجل تعميمها وتمكين أكبر عدد ممكن من التلاميذ من الاستفادة برامجها الدراسية تدريجيا،

لكن بعد أن كان الجميع ينتظر الاستمرار في تثبيت هذه المكتسبات، والاستمرار في دعمها ببرامج ومشاريع جديدة تعطي نفسا جديدا للدرس الفني والجمالي بالمدرسة المغربية، فوجئنا في عهد السيد الوزير ” محمد الوفا” باجراءات “إنقلابية”، تحمل تراجعات خطيرة، ستسبب في انكماش وتأزيم الوضعية الحالية لمواد التفتح الفني بالمؤسسات التعليمية ، والعودة بها لدرجة “الصفر”، مما سيساهم في خلق الإحباط لدى العديد من الفاعلين التربويين، وجعلهم غير مطمئنين وقلقين على مستقبل تدريس المود الفنية بالمغرب.

مكتسبات بطعم التعثر:

معلوم أن المغرب شرع منذ الاستقلال في إرساء بعض المواد والشعب الفنية بنظامه التعليمي والتكويني. فالمغاربة يتذكرون جيدا حدث تدشين البناية الجديدة للمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان سنة 1957 من طرف الملك الراحل محمد الخامس، الذي قدم إشارة فعلية عبرت عن رغبة المغرب في الانخراط في سيرورة الانفتاح وتطوير حقل التربية والتكوين، وهي المدرسة التي سيتم تحويلها لمعهد وطني في إطار تفعيل التعليم الفني الجامعي سنة 1994 بموجب قرار وزاري، والتي يرجع تاريخ تأسيسها لعام 1945 من طرف الفنان الإسباني ماريانو برتوتشي. كما نستحضر كذلك الزيارة الملكية التي خص بها الملك محمد السادس لمعرض “تظاهرة التربية بألوان الحياة” سنة 2008 بالرباط ، وزيارة ولي عهده مولاي الحسن سنة 2011 للوحات التشكيلية الثلاثمائة وخمسة وستون التي أنجزها تلاميذ أكاديمية جهة الرباط سلا زمور زعير ضمن فعاليات الدورة الرابعة للتظاهرة نفسها، التي تعود فكرة تنظيمها للسيدة التيجانية فرتات المديرة السابقة للأكاديمية. وأما بالنسبة لتدريس مادة التربية الموسيقية فقد تم اعتماده منذ الستينات من القرن الماضي لكن تم التراجع عنه لاحقا.

وضمن هذا التوجه، لا بد من التذكير بأبرز المنجزات ذات الصلة بتدريس الفنون التي راكمها المغرب بمنظومته التعليمية والتكوينية خلال العقود الماضية، رغم أنها في نظر الكثير من المهتمين والمتتبعين للمسار التاريخي لتطور التربية الفنية والجمالية ببلادنا، مجرد إنجازات مشتتة ومعزولة عن بعضها البعض، ولا تنطلق من برامج متكاملة تندرج ضمن رؤية موحدة تحقق الاتساق والانسجام في الأهداف والغايات، مضبوطة بأفق زمني وآليات وموارد كافية، تأسس لتعليم فني يستجيب لتطلعات وحاجات المجتمع :

1. على مستوى التدريس والتكوين:
ـ تم إحداث شعبة الفنون التشكيلية بالمراكز التربوية الجهوية ” سابقا ” منذ سبعينيات القرن الماضي بكل من مدن الرباط، الدار البيضاء، فاس، طنجة ، مراكش. حيث سمح ذلك بتكوين وتخريج المئات من الأستاذات والأساتذة يتجاوز عددهم حاليا 1280 ، وساهموا في تعميم تدريس مادة التربية التشكيلية في أزيد من 750 مؤسسة للتعليم الإعدادي على المستوى الوطني، علما أن هذه المادة كانت تدرس منذ الوجود الفرنسي بالمغرب تحت تسمية “مادة الرسم الفني”. كما أحدثت شعبة التربية الموسيقية بكل من مركزي الرباط ومكناس، تخرج منه لحد الان حوالي 600 أستاذ للتربية الموسيقية يدرسون حاليا ب 547 مؤسسة متواجدة ضمن 79 نيابة إقليمية.

ـ فتح مؤقت في بداية الثمانينيات لسلك خاص لتكوين أساتذة التعليم الثانوي التقني لتدريس شعبة الفنون التشكيلية لفائدة التلاميذ الراغبين في الحصول على باكالوريا في شعبة الفنون التشكيلية؛

ـ الإدراج الرسمي لمادة التربية الفنية ضمن المواد المدرسة بالتعليم الابتدائي وتعميمها، وخصها ببرامج وكتب مدرسية، مع إدراجها ضمن المنهاج التكويني لمراكز تكوين أساتذة التعليم الابتدائي؛


ـ الشروع في تدريس مادة التربية الموسيقية مرة أخرى بالسلك الإعدادي سنة 1995، تاريخ تخرج أول فوج من أساتذة هذه المادة من المركز التربوي الجهوي بالرباط؛

ولنا أن نستحضر كذلك التوجيهات الهامة التي وردت بالميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 بخصوص التربية الفنية والجمالية والإبداعية، التي لا يسع المجال لسردها بالكامل، بالنظر لتعدد واختلاف مستوياتها التصورية والإجرائية المتضمنة بهذه الوثيقة الوطنية المرجعية. وتكفينا هنا الإحالة على الدعامة الحادیة عشر من المجال الثالث التي تنص على الآتي: ” ضرورة الرفع من جودة التربیة والتكوین عبر الاھتمام بإنعاش الأنشطة الریاضیة والفنیة وتدریس التربیة البدنیة والتربیة الفنیة.”

هذا دون إغفال ما جاء في الكتاب الأبيض المعد من طرف لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي في عهد الوزير السابق عبد الله ساعف سنة 2002، وتحديدا ضمن الجزء السادس المخصص للمناهج التربوية لقطب الفنون، حيث أحدث قطب فني بالسلك التأهيلي، لكن مع الأسف لم يتم تفعيله لحد الآن، وهو قطب يتكون من شعب التربية الموسيقية، الفنون التشكيلية، والفنون البصرية والوسائطية، وأتى إقراره استجابة لاحتياجات فئة عريضة من المتعلمين، وكإجراء مستعجل لمسايرة التطور الحضاري ولحاجات المجتمع لأطر فنية في مختلف الفنون، واستجابة أيضا للتحولات التي يعرفها المجال البصري والوسائل الوسائطية واستثماره بما يفيد المجتمع وسوق العمل والانفتاح على المهن الجديدة والمعاصرة.

ـ انطلاق تدريس مادة الثقافة الفنية بالسنة الأولى من سلك الباكالوريا منذ عام 2006 وفق توجيهات وبرامج تربوية رسمية مدعمة بالكتاب المدرسي ” الأساسي في الثقافة الفنية “.

ويظل أهم ما يحسب لمنجزات البرنامج الاستعجالي 2009/2012 في هذا المجال هو:

ـ الانطلاق في تكوين فوج من أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي لتخصص الفنون التطبيقية، لسد الخصاص بالثانويات التي تدرس بها هذه الشعبة؛

ـ تخريج فوج من عشرين من المفتشين التربويين لمادتي التربية التشكيلية والتربية الموسيقية لرأب جزء من الخصاص المهول الحاصل بهذه الفئة من الأطر التربوية؛

ـ إدراج مادتي الموسيقى والأناشيد والمسرح ضمن المنهاج الدراسي لمادة التربية الفنية بالتعليم الإبتدائي.

2. على مستوى التنشيط التربوي والإشعاع الفني بوزارة التربية الوطنية:
يمكن ضمن هذا الإطار الإحالة على ثلاث تجارب مهمة تخص مادتي التربية التشكيلية والتربية الموسيقية بالتعليم الثانوي الإعدادي:

- الأولى تتجلى في المذكرة الوزارية رقم 23 الصادرة بتاريخ 8 أبريل 2005 حول توسيع شبكة مشاغل الفنون التشكيلية المعاصرة بمؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي في إطار الشراكة الموضوعاتية بين الوزارة ومصالح العمل الثقافي التابعة للسفارة الفرنسية بالمغرب، عبر إحداث 350 مشغلا للفنون التشكيلية المعاصرة على الصعيد الوطني، في أفق تعميمها على جميع المؤسسات الثانوية الإعدادية على مدى ثلاث سنوات. وقد أتاحت هذه المشاغل للتلاميذ فرص وإمكانات هامة للإبداع والعمل الفني والتواصل، وقد تم توثيق إنتاجاتها بدلائل ورقية مصورة، ضمت أجود الأعمال الفنية المعروضة وطنيا ومحليا.

- أما التجربة الثانية فهي ” المهرجان الوطني للمجموعات الصوتية “، الذي كان يقام بشراكة بين وزارة التربية الوطنية والجمعية المغربية لأساتذة التربية الموسيقية، والذي نظم في ثلاث دورات وطنية، حيث ساهمت فعالياته الفنية في تأسیس المئات من الأندیة الموسیقیة، التي شاركت بإشعاعھا في مجموعة من التظاھرات الثقافیة التي أقيمت سواء داخل المؤسسات التربویة أو على صعيد النیابات أو الأكادیمیات.

- وأخيرا التجربة الثالثة، التي أطرتها المذكرة الوزارية رقم 59 الصادرة بتاريخ 14 أبريل 2009 والتي تحمل توقيع المكلف بمهمة الكاتب العام لقطاع التعليم المدرسي، وقد أتت في سياق تحفيز التلاميذ على الاهتمام بالفنون التشكيلية والارتقاء بمكانة التربية التشكيلية ومؤطريها بالمؤسسات التعليمية، من أجل الاتقاء بالحياة المدرسية. وتمحور مضمونها حول تنظيم معرض وطني ومعارض بجميع الثانوية الإعدادية يضم صور مطبوعة لمجموعة تتكون من ثلاثين لوحة تشكيلية تعود للفنانين المغاربة، وذلك من أجل التعريف بمعالم تاريخ فن الرسم والمبدعين الذين طبعوا تاريخ الفنون التشكيلية بالمغرب.

3. على مستوى التأطير والتنظيم: عملت وزارة التربية الوطنية منذ إحداث المادتين المذكورتين بالمنظومة على تأطيرهما بمجموعة من البرامج والتوجيهات التربوية التي كانت تخضع للتحيين والتطوير على غرار ما يحصل في هذا الشأن بالنسبة لباقي التخصصات والمواد بجميع الأسلاك الدراسية، وسعت كذلك لتنظيمها بشكل متواتر بمجموعة من المذكرات الوزارية والوثائق التربوية التنظيمية الخاصة، نورد أهمها كالتالي:
v بالنسبة للتربية التشكيلية:

ـ المقرر الدراسي الصادر باللغة الفرنسية لسنة 1976.

ـ المذكرة الوزارية رقم 216 بتاريخ 20 شتنبر 1979 حول التوجهات الجديدة لتعليم المادة، وهي صادرة عن مديرية التعليم الثانوي.

ـ معجم مكون من (33 صفحة) فرنسي –عربي ، صادر عام 1994 عن قسم البرامج التابع لمديرية التعليم الثانوي.


ـ المذكرة الوزارية رقم 4 بتاريخ 2 يناير 1997 حول التقويم التربوي في مادة التربية التشكيلية بالسلك الثاني من التعليم الأساسي الصادرة عن مديرية السلك الثاني من التعليم الأساسي.

ـ المذكرة الوزارية رقم 131 ، صادرة بتاريخ 04 نونبر 1998، وهي خاصة بالتوزيع الدوري لبرنامج السنة التاسعة من التعليم الأساسي.

ـ المذكرة الوزارية رقم 00/ 1002، صادرة بتاريخ 1غشت 2000 حول تعميم المادة تحمل توقيع الوزير السابق السيد إسماعيل العلوي.

ـ المذكرة الوزارية رقم 10/152، صادرة بتاريخ 19 نونبر 2001 حول موضوع التقويم التربوي في مادة التربية التشكيلية بالسلك الإعدادي موقعة من طرف السيد وزير التربية الوطنية السيد عبد الله ساعف.

ـ المذكرة الوزارية رقم 148، صادرة بتاريخ 2 دجنبر 2004 حول التوزيع السنوي لبرنامج مادة التربية التشكيلية بالتعليم الثانوي الإعدادي الصادرة عن مديرية المناهج، والتي نصت على اعتماد بيداغوجيا بالكفايات والتدريس بالوضعيات.

ـ المذكرة الوزارية رقم 23 ، صادرة بتاريخ 8 أبريل 2005 حول توسيع شبكة مشاغل الفنون التشكيلية المعاصرة الصادرة عن مديرية التقويم وتنظيم الحياة المدرسية والتكوينات المشتركة بين الأكاديميات.

v بالنسبة للتربية الموسيقية نذكر:

ـ المذكرة الوزارية رقم 158 لسنة 1995 ، التي تعتبر المذكرة الأولى المنظمة لهذه المادة، حيث تمحورت حول أهدافها وتدابيرها الزمنية.

ـ المذكرة الوزارية رقم 12، صادرة بتاريخ يوليوز 2000؛ تمحورت حول آليات تعميم المادة وساعات التدريس والتنشيط الموسيقي بالأندية.

ـ المذكرة رقم 135 ، صادرة بتاريخ 23 شتنبر 2009 والتي كان مرجعها البرنامج الاستعجالي ضمن المشروع رقم 9P 1E، و تمت الاشارة فيها الى أهمية الارتقاء بمواد التفتح والذوق الفني وتحسين جودة الحياة المدرسية، ونصت على اعتماد المقاربة بالكفايات والتدريس بالوحدات، وآليات تفويج الأقسام، وكيفية تكوين وتدبير الأندية الموسيقية والمشروع التربوي للأستاذ.

المصير المجهول:

بتاريخ 16 أبريل 2013 بكلية العلوم بالرباط، وأثناء لقاء تواصلي جمع مفتشي أكاديميات الرباط سلا زمور زعير/ طنجة تطوان والغرب الشراردة بني احسن بالسيد وزير التربية الوطنية محمد الوفا، وبحضور الكاتب العام والمفتشين العامين للوزارة ومديري ونواب الأكاديميات المذكورة، صرح السيد الوزير علنا أمام الجميع بما يلي: ” واش أنا دابا بقا ليا غير ديك المواد اللي ما عرفت آشنو كايسميوها…. المواد غير المرخص لها… واش حْنَا فْ لَبْنِي (ضاحكا) أو المواد غير المعممة… كاليك التربية… والتربية النفطية وما عرفت شنو آخر (ساخرا)…”

كانت تلكم لحظات كشفت حقيقة الموقف الذي يتبناه السيد الوزير تجاه المواد غير المعممة التي تشكل المواد الفنية جزءا هاما منها، وعكست استهزاءا واحتقارا وانتقاصا بينا من أهميتها وقيمتها التربوية والتعليمية، والغريب طبعا في هذا الموقف المتسرع، هو التصريح به علنا أمام المسؤولين المركزيين والمفتشات والمفتشين بجميع أصنافهم و من بينهم طبعا مفتشي “المواد غير المعممة”، الأمر الذي يعد ” سابقة وزارية بكل المقاييس “. فحتى لو كان الأمر كما “يرى” السيد الوزير، كان من المفترض التحلي بقليل من المسؤولية، دون إصدار حكم قيمة ذو حمولة سلبية، أوالسخرية من أية مادة دراسية رسمية بالنظام التعليمي كيفما كانت وضعيتها. فلا شيء يبرر إطلاق الأحكام المجانية، والانفلات من كل الضوابط التربوية والأخلاقية، لتبخيس هذه المواد ولتبرير القرارات المتخذة في شأنها. فالمواد غير المعممة تعني ببساطة، المواد التي هي بحاجة لتعميم تدريسها لجميع التلاميذ وبكل المستويات الدراسية. وهذه التسمية لا تحيل على أية دلالة أخرى، ولا علاقة لها بمضمون هذه المواد أو أنشطتها التعلمية. فالأمر لم يكن يستدعي بالمطلق اللجوء لتحوير معاني الكلمات وتشويهها وإقحامها في سياقات فرجوية لتبرير القرارات والاختيارات الإنقلابية والإنفرادية غير المفكر فيها بمفاهيم معرفية.

إن هذا الموقف يذكرنا بقرار وزارة التربية الوطنية بتوقيف التكوين في شعبتي الفنون التشكيلية والتربية الموسيقية للسلك الثانوي الإعدادي بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين خلال الموسم الجاري، وهو القرار الذي يحصل لأول مرة في تاريخ المنظومة التعليمية، وسيكون له انعكاس سلبي على البنية التحتية لمنظومة التكوين في المواد الفنية بمراكز التكوين، ويهددها بالتفكك والانقراض. وبالطبع، يحاول السيد الوزير كما أعلن ذلك مرات عديدة، أن يبرر قرار وزارته بنقص الموارد المالية مقابل الخصاص في أطر التدريس لباقي المواد. فكلنا نعلم أن ضعف الموارد المالية هو ليس معطى مستجدا على المنظومة، ونعرف جيدا أن كم حاجيات هذه الأخيرة كان في العقود السابقة أكثر مما هو عليه الحال اليوم، ودائما كانت هناك أولويات وبرامج مستعجلة تقتضي موارد مالية هامة، إلا أن ذلك لم يمنع المسؤولين المتعاقبين على القطاع من تخصيص جزء يسير جدا من هذه الإمكانات، والالتفات بها إلى هذه المواد، لإنجاز بعض البرامج المصغرة لمحاولة إنعاشها وتقويتها، ولو في غياب مشروع متكامل ينهض بها ويرفع عنها التهميش والعزلة ويعيد لها الاعتبار.

إن الحديث عن نقص الموارد المالية كمبرر لعدم تخصيص بعض المناصب المالية للمواد الفنية، بدعوى إعطاء الأولوية “للمواد الأساسية” هو حديث غير مقنع، خصوصا وأن العدد الإجمالي للمناصب التي خصصتها الوزارة للمدرسين هذا الموسم ناهز 8000 منصب . وكأن المناصب أوالأموال التي ستصرف لفائدة المواد الفنية سترمى في البحر، في حين أن الواقع هو استثمار في مجال تعليمي وتكويني يفتح آفاق هامة و تخصصات مهنية واعدة، حيث أن المغرب في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن. فالانفتاح على المهن الجديدة والمعاصرة التي أضحت تشكل أقطاب اقتصادية قوية بالدول المتقدمة، والتي في غالب الأحيان يكون المغرب مضطرا للاستعانة وجلب المتخصصين فيها من الخارج، كهندسة الصوت، التوزيع الموسيقي، الإنتاج الموسيقي، التصميم الإشهاري، التصميم الصناعي، تصميم المحيط، الأنفوغرافيا، التصوير الفوتوغرافي، الرسم التوضيحي/ l’illustration فنون الطباعة، تصميم الديكور، التخصصات السمعية البصرية والوسائطية، المهن السينمائية، صناعة الأشرطة المرسومة…. واللائحة طويلة جدا. هذا الانفتاح هو مطلب ملح في الوقت الراهن، ولا يقبل التأجيل أو الاختيار. وهو السبيل للخروج من بوتقة تعليم محصور في المواد التقليدية و المهارات والخبرات المعرفية والمهن المرتبطة بها، التي أغرقت سوق الشغل دون فائدة. فالتعليم في زمن العولمة تطور وانفتح على خبرات إنسانية حديثة ولا يمكن للمغرب أن يبقى حبيس العرض التعليمي ” الكلاسيكي ” المحكوم بدرايات “اللغة والحساب” على حد تعبير السيد الوزير الوفا، كما أن حصر التعلم ضمن خانة التحكم في هذه المواد فقط، لم يعد كافيا لإقدار خريج المدرسة المغربية على الاندماج في حياة القرن الحادي والعشرين، والانفتاح على العالم والاستجابة لمتطلباته.

طبعا، لا يمكن التفكير في إعداد متخصصين في المجالات الآنف ذكرها، دون أن يكون هناك انطلاق من تعليم أساس بمؤسسة المدرسة، ومرور بأنشطة تعليمية تستهدف بناء الكفايات والمهارات الدنيا التي تسمح بولوج مستوى التخصص. وهو المنطق المعمول به بكافة الدول التي سارت في هذا التوجه، وأصبحت منظوماتها التعليمية تستجيب لكل الذكاءات والميولات والانتظارات المجتمعية، ولنا في فرنسا وبلجيكا وهولاندا وألمانيا وكندا إلخ… نماذج للاستفادة ونقل للتجارب الناجحة.

لذلك نقول، أنه قد حصل تراكم في المغرب في مجال تدريس الفنون، ولو أنه تراكم متواضع بالنظر لما هو مأمول. فالتوجهات والبرامج المقترحة ضمن الكتاب الأبيض المعد على ضوء الميثاق الوطني للتربية والتكوين، أسست لمرحلة متقدمة وترجمت توافقات وقرارات هامة لصالح التخصصات الفنية، وقد تم الاجتماع عليها في عز الحراك والتدافع الفكري والثقافي بين القوى السياسية والفكرية والمجتمعية في المغرب حول أجرأة الاختيارات التوجهات الكبرى للمنظومة التعليمية. لكن لم نكن نتصور يوما أن يحدث تراجع عن هذه المسار والخروج عن سيرورته، و يحصل نسف للمجهودات السابقة التي بذلت لتحقيق المكتسبات المذكورة، والحنين للعودة للفترة ” البوكماخية ” كما يبشر بذلك السيد ” الوفا “. فكيف يمكن العمل بمدخل بيداغوجيا الكفايات، مع تغييب المهارات والقدرات الجمالية والإبداعية والفنية والتعبيرية والتذوقية والحسية والبصرية والسمعية واليدوية لدى المتعلمين، و هي قدرات ذات صلة أساسا بالمواد الفنية، بمعنى التدريس باختيار بيداغوجي منفتح، ولكن في الآن ذاته مشروط بإقصاء صنف من الذكاءات والقدرات الطبيعية لدى التلاميذ، إنه تقييد لا ينسجم مع روح وفلسفة بيداغوجيا الكفايات، التي تفترض تدريب الأطفال على تعبئة واستثمار كل مقومات شخصيتهم وإمكاناتهم الذاتية، لإقدارهم على التعامل والتفاعل مع مختلف الوضعيات التي يواجهونها سواء داخل المدرسة أو خارجها.

لقد كان الفاعلون التربويون لهذه المواد يتوقعون ويأملون أن تشتغل الوزارة الحالية على جملة من القضايا والمشاريع الهامة التي يمكن أن تعطي نفسا جديدا وشحنة إضافية للمواد الفنية بالمنظومة التعليمية، وكانوا على استعداد للتعاون معها لأجل ذلك. ونذكر من ضمن هذه المشاريع: تحيين وتطوير المنهاج الدراسي، إنتاج الدعامات الديداكتيكية والكتب المدرسية، تعميم تدريس المواد الفنية ، إحياء وتفعيل المشاغل الفنية، تنشيط الحياة المدرسية بالمعارض السنوية والتظاهرات الفنية، تنظيم أولمبياد وطني للفنون التشكيلية وللتربية الموسيقية، إنتاج وثائق ودلائل ديداكتيكية توجيهية، تقوية البنية التحتية لقاعات التدريس وتجهيزها، تفعيل تدريس المواد الفنية بالسلك الابتدائي وتوسيعها بالسلك التأهيلي بصيغ جديدة، توسيع تدريس أو إدماج مادة الثقافة الفنية بباقي الشعب بالتأهيلي، توسيع شبكة شعبة الفنون التطبيقية بالتعليم التقني على المستوى الوطني، دعم الوزارة لإحداث تخصصات فنية بالجامعة، توسيع شبكة التقني العالي BTS في التخصصات الفنية، تفعيل قطب الفنون كما جاء في الكتاب الأبيض، تقوية حضور القيم الفنية والجمالية بالمناهج والكتب المدرسية لجميع المواد، الزيادة العددية في المناصب المالية المخصصة للمواد الفنية بمراكز التكوين وإعادة فتح سلك التكوين في شعبة الفنون التشكيلية بمراكز التكوين المغلق سابقا، تقوية ودعم التكوين البيداغوجي والديداكتيكي لهذه المواد بالمراكز الجهوية للتكوين في مهن التربية و التكوين) وإدراج التكوين في التربية الموسيقية والمسرح بهذه المراكز…إلخ.

إن هذه القضايا لا تمثل سوى جزء محدود مما يمكن الاهتمام به ضمن خانة التعليم والتربية الفنية. ولعلها قضايا لا تستدعي استجداء عطف القائمين على تدبير قطاع التربية الوطنية لإدراجها ضمن برامج عملها، بل وزارة التربية الوطنية ملزمة بذلك تربويا ودستوريا، ومطالبة باتخاذ كافة الإجراءات والآليات الكفيلة بضمان استفادة المتعلمين من الأنشطة التعلمية والتربوية الفنية. فالفصل 31 من الدستور المغربي ينص على أن: تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في: ….. التكوين المھني والاستفادة من التربية البدنية والفنية؛……

بقلم:ذ. توفيق مفتاح 

منقول من موقع :
http://taalimi.com/taalim-ma597.html

0 التعليقات:

إرسال تعليق