اختر لون الخلفية المفضلة لديك

"هيتشكوك" ساشا جيرفاسي، تدشين مرحلة جديدة في التلقي السينمائي
  ألفريد هتشكوك   











ألفريد هيتشكوك هو الإسم الذي يرتبط ، أكثر من غيره من الأعلام السينمائية، سواء في كونية الثقافة السينمائية أو إقليمية الثقافة الأنغلوسكسونية،  بالمبحث الأكاديمي والدراسة التي تتخطى السينما إلى النظرية الثقافية. ولهذا الاهتمام مبررات متعددة بتعدد المباحث التي تتناوله كمادة وتنوع الأرضية المعرفية والمنهجية التي تتأسس عليها هذه المباحث. هيتشكوك هو الإسم الذي حقق فيه الفن السابع أخيرا التطلعات التي كان يصبو إليها منذ بدايته والطموحات التي اختلجت رواده إلى صانع صور متحركة من طينة سيرفانتيس و شيكسبير في التعبير الأدبي، ليتحول هيتشكوك هو الآخر، من داخل الخصوصية السينمائية من تجربة تأليفية، إلى تجربة الكتابة السينمائية نفسها. وعلى شاكلة النماذج الأدبية التي تفرض نفسها كالقطب الآخر في المقارنة، تجاوز هيتشكوك الكتابة السينمائية إلى الخطاب الإبداعي والجمالي عامة لينتهي كفكرة عن الكتابة عموما.
قطع هيتشكوك هو الآخر أشواطا في التقييم ليضحى ما أضحى مواطنه ويصبح القيمة نفسها التي يعير بها الإبداع  وتتكؤ عليها المقاربة. حصريا من داخل الفن السابع لا يمكن القيام بعمل جديد يحيط  بهيتشكوك، ناهيك حوله كمادة مضامينية، دون التموضع داخل شبكة من التحديات والرهانات والتعرض طواعية لقراءات قد يعتريها التغريض وسوء الفهم أكثر من التمحيص والتبصر. وليس من شك أن ساشا جيرفاسي Sacha Gervasi وهو يخمن فقط في فيلمه الأخير "هيتشكوك"  كان على وعي بهذه الحقيقة. وأظنه كان على  وعي أكثر أن فيلمه سيمر مرور الكرام في آنية الإحتفاء والجوائز والأنطباع الذي صار أكثر ما يصف الأعمدة الإعلامية، لأن عملا سينمائيا يرتبط  بهيتشكوك لايستقر إلا في نوع مميز من القراءة ترميه في سديم عمق الزمن النقدي المترفع عن الآنية والإنطباع الظرفي.
مسيرة هيتشكوك السينمائية هي تاريخ تحول الواقع الإنساني الباطني النفسي والخارجي العيني إلى سينماتوغرافيا، ومنها إلى الإستعارة ومن هذه إلى الدلالة. أصبح هيتشكوك في لسانيات السينما لغة قائمة بذاتها يعتمدها الكلام السينمائي في وضعيات عدة نشير إلى مواقف الرعب والتشويق منها على سبيل المثال المعلوم للعامة وليس المحصور للمهتمين. مثلم رصت عليه رواية دون كيخوتي في الفن الروائي الأدبي، ومسرحية هامليت في الفن الدرامي، أسست سينما هيتشكوك أبجدية سينماتوغرافية تتمفصل في معان جديدة مع كل تجربة إخراجية، كانت هذه محاكاة تناصية مع كلود شابرول أو استلهام شكلي مع ويليام فريدكين، أو اقتراض من طرف ريدلي سكات أو جوناتان ديمي. كانت هذه التجربة في السينما السلافية أو السينما الإيرانية مثل فيلم "غيسر"، صعبا ما يتزحزح كل مشتغل في العمل السينمائي التأليفي يصبو إلى اقتناص مشاعر وتفكير المتفرج عن نموذج هيتشكوك.
والمفارقة أن هيتشكوك، هذا المخرج السينمائي الذي لم يكتب ولو جملة واحدة في النظرية والنقد السينمائي، ينتهي هذه الدعامة في النقد الذي ينطلق من السينما ويعود إليها. هيتشكوك أعطى للنقد السينمائي كذلك مضمونه الخاص وأدواته الخاصة.  فنص هيتشكوك الفيلمي نصية سينمائية يفعلها خطاب يحمل الشفرة ومفتاح تفكيكها في نفس الآن، وهذا ماجعل فيلموغرافيته كما تمنح نفسها  كمتن يمتح منه النقد خطاباته وسياقاته، تقترح وتحفز على  الإتجاه بالعملية النقدية نحو ثخوم استقرائية جديدة ومتجددة. لهيتشكوك الدور الكبير في تطور السينما وتطور الميتاسينما كذلك. أصبح هيتشكوك بالإظافة إلى طريقة تواصل سينمائية وعيا سينمائيا بمقولاته وتجلياته الخاصة والمتنوعة، الراسية أحيانا في صلد الواقعية، والمتعالية أحيانا أخرى في هلامية الميتافيزيقا.      

هيتشكوك ومتلقي السينما بين السينيفيليا والسينماتولوجيا


عودة هيتشكوك إلى الشاشة الفضية عبر فيلم هيتشكوك  للمخرج الإنجليزي ساشا جيرفاسي هي مبدئيا حضور هيتشكوك في سينما الألفية الثانية بكل التراكم الكمي والنوعي الذي يشكله إسمه في السينماتوغرافيا قبل السينما، وفي النقد والنظرية قبل المشاهدة والفرجة. عودة لا يمكن أن تكون إلا حبلى بالعديد والمتنوع من الإنتظارات. منها ما هو رهين بالسينما، سواء هذه التي تحتفي برجالاتها، أو هذه التي تقترح تأملا جديدا لإنجازاتهم، ومنها ما هو رهان للمتلقي، سواء هذا الذي اقترن عنده إسم هيتشكوك بالقدرة على المفاجأة السينمائية أو هذا المتخم  بالدراسات والمقاربات التي أحاطت بالمؤلف السينمائي من خلال العديد من المباحث وعبر العديد من المناهج. فحين يظل هيتشكوك  في المرجعية السينمائية رؤية ورؤيا تتداخل فيها ذات المؤلف  مع موضوع السينما كخطاب، فعودته لامحالة  تقترح نظرة معينة  تحيط بواقع سينمائي جديد بدأت ملامحه تتشكل منذ بداية الألفية الثانية. نوعية فيلم "هيتشكوك" داخل المتن السينمائي باختياره النصي ورهانات الظرفية التي أنتج فيها تجعل مقاربته، في نظرنا وحسب اجتهادنا، تتجه نحو المتلقي السينمائي في واقع السينما الجديد. ألفريد هيتشكوك  يعبر عبر ساشا جيرفاسي إلى السينما في عصر التقنيات المعولمة التي فرضت شروطها على الإبداع والتلقي السينمائي سواء بسواء. مثل نص "مكتبة بابل" الذي حاور فيه بورخيس واقع القراءة في عصر الأنترنيت، حاورت سينما هيتشكوك بدورها واقع المشاهدة واستهلاك السينما في عصر تنوعت وتعددت فيه وسائط نقل السينما بشكل مخيف وأصبحت فيه صناعة السينما أكثر قرب من دوائر الذات والفرد منها إلى قلاع الصناعة والمؤسسة.
يتميز رجوع هيتشكوك للشاشة الفضية بكونه يصادف ظرفية تاريخية تعيش فيها السينما واقع مفارقات عدة ومتنوعة. تتجلى هذه المفراقات بدأ في هذه الحالة الشيزوفرينية للسينما اللإبداعية. فهذه السينما تختفي عن الشاشة الكبرى كمجالها الحيوي والطبيعي وتظهر بتجل عبر الوسائط التي كانت، إلى أمس قريب، تهدد كيانها كفن وتعبير. لا يخفى على مهتم أن واقع السينما المتميزة اليوم هو شبه غيابها المطلق عن قاعات العرض الجماهيرية. مظاهر هذا الغياب هي ولادة هذه السينما  في المهرجان كالمناسبة الأمثل للإحتفاء، والحضور المحتشم في بعض دور العرض الخاصة والانتقائية التي تراودها نخبة من عشاق السينما، وغالبا ما تكون على مستوى لابأس به من الحساسية والثقافة السينمائية، ثم الاختفاء إلى أن تعاود الظهور عبر الأقراص الرقمية المدمجة DVD. أصبح الطريق الطبيعي لسينما الفن اليوم، أو السينما الثقافية أو الأقلية وما شابه ذلك من مسميات، يبدأ في المهرجان في اتجاه واحد هو متحف الفنون الكلاسيكية والمعاصرة ومنه إلى أقراص DVD .  هذه المسافة المقتضبة جعلت من التميز، الفني والجمالي والتجريبي، في السينما طموح ضمني نحو خلود أزلي لا يتحقق في قاعات العرض الشعبية وإنما في المشاهدات الخاصة مع شريحة تشارك نفس الاهتمام. أصبح الفيلم الفني بشكل من الأشكال "تحفة" تعرض وتقتنى. وكأي تحفة، يمنح الفيلم الفني نفسه كمشروع لقراءة ودراسة وتمعن وتأمل يخرجه عن السياق الظرفي الآني ويدخله في السياق التاريخي.  
الوجه الأخر لهذه المفارقة، ونجده أكثر ارتباطا  بهيتشكوك الذي اقترن اسمه بمبحث السينما والتحليل النفسي من داخل ازدواجية الدال والمدلول، فهو المخرج الذي قدم متنه عينات تعبيرية في هذا الحيز، ويعود إلى السينما في هذه الظرفية التي أصبح فيها مفهوم  الجهاز السينمائي Cinema Apparatus، هذه الإظافة الإبستيمولوجية التي اهدتها السينما لميدان التحليل النفسي،  يأخذ طابعا أبعد من الذي ارتبط به حين كان يعني في، أحادية دلالية، شرط العرض الفيلمي،  أو ما اصطلح عليه ريموند بيلور   Raymond Bellour  ب dispositif. إلى أمس قريب كان الجهاز السينمائي مقرونا بالقاعة والشاشة الكبرى كشرط موضوعي / ذاتي، هو المتحكم الأول في التلقي السينمائي. أخذ الجهاز السينمائي أشكالا جديدة عبر شروط عرض فيلمية استسهلتها وسائط تعيد استنساخ السينما (أو مسخها بشكل مشوه حسب معيارية ما) كشاشات الهواتف المحمولة أو الألواح الرقمية. والمفارقة أن هذه الوسائط، كما أشار ريموند بيلور في حوار مع Cahiers du Cinema  -عدد نونبر 2012 - تحقق فعل "السينما" أكثر لأن الشروط النفسية التي تحضر في حالة الجهاز السينمائي، هي نفسها وإن كان تختلف عبر معادلة التنوع والدرجة. فوضعية المشاهدة والمتعة الفرجوية تقترب من تلك الناتجة عن الشروط الوضعية للجهاز السينمائي. هذا التنوع  في الوسائط يؤكد حقيقة واحدة وهي استمرار السينما كهذا البعد النفسي المرتبط بالرغبة والهاجس أكثر من أي عامل آخر. لا يخفى على مهتم مساهمة هيتشكوك في تبلور السينما كمشروع فن وجهاز بدونه لا يمكن تخيل استمرارها في واقع التهجينات الوسائطية الذي حققته التكنولوجيا المعلوماتية.
 تصاحب هذه الرغبة  في استهلاك السينما عبر وسائط  في توالد مستمر لا يتوانى "مشاهد" الألفية الثانية عن اقتناءها واستعمالها، رغبة موازية على مستوى المشاهد السينيفيلي، وتكمن في الإقبال على الثقافة السينمائية بشكل نظري معرفي، وعملي تطبيقي تنوعت وتخصبت وسائل الحصول عليه يتنوع وتولد الوسائط السينمائية الجديدة. حين تستسهل البرامج الحاسوبية ممارسة منزلية للسينما، (وإن كان في الموضوع ما يحفز على دراسة تتناول فعل السينما والسينما كفعل في واقع الامكانيات الرقمية) فإن أقراص الديفيدي تقدم لهذا المتقلي المنضبط ، إضافة إلى العرض الفيلمي، موادا مصاحبة تدخل في حقل الثقافة السينمائية في شمولياتها وخصوصياتها. هذه الإضافة النوعية جعلت من وسيط التلفزة يعوض الدور المنحط الذي الصق به، حين اقترنت علاقته بالسينما كإعادة إنتاج مبتورة للفيلم، دون الشروط السينمائية، بتدعيم الفيلم بمادة تقربه مبدئيا من التلقي النموذجي الذي تطمح له السينما، والذي يكمن  في هذه المشاهدة عن وعي وبوعي سينمائي. حتمية المفارقات التي صاحبت السينما منذ اختراعها وتأسس عليها  تطور السينما في تاريخها، تعاود الظهور في هذه العلاقة الجديدة بين السينما وجهاز التلفزة. فوسيط DVD ، المعتمد على شاشة التلفزة  كنمط للعرض  ينافس إن لم نقل يقضي على وسيط قاعة العرض، هو الذي حط الفيلم في عوالم القراءة التي تطمح لها النظرية السينمائية في عموم مراميها وخصوص أهدافها.
 لم تعد الأقراص الرقمية المدمجة تقتصر على العرض وإنما تجاوزته لإرفاقه بمواد إضافية  تتنوع من  الملحقات المكتوبة إلى المسجلة بالصوت أو الصورة أو هما معا. وقد ترقى  بعض هذه الملحقات في مستواها النقدي والتحليلي إلى هذا الخطاب المشتغل بأدوات ومناهج ظلت محصورة سابقا في الدوائر المختصة وأقسام الدراسات السينمائية الجامعية. أصبح عاشق السينما الذي يرغب في تحقيق نوع من الإشباع في حديث السينما دقيقا  في اختياره لنسخ الأقراص المدمجة. وكما تتنوع درجة وطبيعة الاهتمام بالسينما تتنوع نسخه الفيلم الواحد من مجرد القرص الذي يتضمن الملحق المقتضب عن سيرة المخرج وأعماله وكلمة عن المشتغلين فيه، إلى هذا الذي  يتضمن دراسات أكاديمية وحوارات مع مختصين ودارسين لايترددون أحيانا في مقاربة الفيلم بغوص اللغة التفكيكية واستعمال المفاهيم الاكاديمية الخاصة بحقل الصورة السينماتوغرافية. هذا الطموح النظري للفيلسوف جيل دولوز  الذي اقترح مقاربة الفيلم ككتاب وتحويل الفرجة إلى قراءة متمعنة وعملية تفكيكية لم يتحقق في القاعة المظلمة أو في التلقين الفصلي وإنما في حميمية البيت المنزلي.
الإرتقاء إذن  من مستوى  السينيفيليا إلى السينماتولوجيا، وأنحصر هنا  في السياق الأنغلوسكسوني،  صار ممكنا باقتناءه نسخ الأقراص الفيلمية  التي  تنتجها  دور إنتاج ك كرايتيريون كوليكشون The Criterion Collection أو أونفيرسال لغاسي سيريز Universal Legacy Series .
توسعت رقعة الاستهلاك السينمائي عبر نسخ الأقراص الفيلمية المدمجة DVD لتحقق طموح السينما التقدمي كجهاز تعتمده السياسة الثقافية الإشعاعية. في الوقت نفسه أصبحت القراءة الفيلمية واقعا عينيا عبر هذه الملحقات المرافقة، التي تتنافس في التغذية والتنقيح بكل ما يحيط العمل السينمائي من مباحث إنسانية. كنتيجة لهذا الوضع، أصبح بإمكان المشاهد السينفيلي أن يحقق كذلك طموح  المتلقي السينامتولوجي، دون عناء المحاضرات الجامعية في السينما وتكلفتها المستنزفة ماديا وزمنيا وفكريا.
في هذا السياق، تناولت الباحثة أليسون تروب Alison Trope، في دراسة عنونتها بإشارة واضحة لواقع الإستهلاك السينمائي الجديد، عتبة على معهد السينما: بين التسلية المنزلية والتربية المنزلية،  هذا التحدي الجديد أمام الدراسات الأكاديمية السينمائية في واقع الإستهلاك المنزلي، بسبب هذه النقلة النوعية التي تحققت للسينما عبر وسيط الأقراص الرقمية المدمجة. أخلصت الباحثة إلى كون القرص الرقمي المدمج صار يعني إمكانية غنية لاستمرار السينما كفعل من داخل عزلة وحميمية الدفء المنزلي، أو جو الفصل المدرسي. كما صارت عبارة الفيلم السينمائي  ترادف ما يحتويه القرص في ملحقاته للعرض من مقاربات نقدية، وأصبح اقتناء نسخة الفيلم مرتبطة بإسم المخرج وأسماء المشتغلين في الحقل مباشرة وشهرتهم من داخل اختصاصهم في الدرس السينمائي. بعيدا عن الصنمية والرطانة الأكاديمية العقيمة في كثير من الأحيان، فتح وسيط القرص المختص، من الأنماط التي أشرنا إليها أعلاه، لعاشق السينما هذا الأفق المثالي لتحقيق السينماتولوجيا إضافة إلى إشباع السينيفيليا.
عودة هيتشكوك للسينما تحاور هذه الظرفية الجديدة للتلقي الفيلمي بكل مفارقاتها التي تنصب في اتجاه واحد وهو استمرارية السينما كجمالية وتعبيرية بالاضافة إلى ترسيخها كمعرفة. لا يخفى على متتبع أن هيتشكوك كان فعليا ورمزيا من عبّد الطريق لهذا التحول النوعي في التلقي السينمائي في أوجهه العديدة والمتعددة. فإليه ترجع المبادرة الفعلية في إدخال السينما بميزتها الخطابية، وابجديتها التواصلية، إلى التلفزة. فسلسلة هيتشكوك كانت هي العتبة الأولى لدخول السينما إلى التلفزة بشروط  تتجاوز الحبكة الفرجوية إلى السينماتوغرافيا والصياغة الفيلمية. وقد استطاع  هيتشكوك شد انتباه أجيال من جمهور التلفزة عبر حبكات حكائية ملغمة تقطع الأنفاس وتسقط  وضعية الجمدة السينمائية بطريقة غير مباشرة على حالة المشاهد التلفزي. سلسلة هيتشكوك كانت تقصد رواد السينما أكثر من المشاهد التلفزي الفاتر في اختياراته، وبالتالي انتقلت فعليا عملية المشاهدة التلفزية للفيلم من أجواء المنزل إلى أجواء الجهاز السينمائي.
يمكن أن نجد كذلك في مقدمات هيتشكوك التوضيحية والتحفيزية  في عتبات حلقات هذه السلسلة نوعأ من توجيه  المشاهد نحو القراءة الفيلمية الواعية كالتي تحققت لاحقا مع أقراص Criterion Collection أو Universal Legacy Series. تقليد المشاهدة الواعية عموما له كذلك أصول في السينما الهيتشكوكية التي كانت في أغلبها تنبني على خطاب يقحم المتلقي ويجهزه بأدوات تفيكيكية تساعد في تشفير العناصر الفيلمية وترمي إلى التواصل مع الفيلم بروح نقدية. كان هيتشكوك في رأي جل الدارسين هو المخرج الوحيد الذي يعطي للمشاهد الانطباع بأنه قادر على اقتحام لوغاريتمات الصورة السينمائية واستقراء الفيلم عبر دواله وإشاراته وشبكة رموزه التي استأنس بها من عمل هيتشكوكي لآخر. قد نجد في انطباع الدرس السيميائي في السينما، هذا الذي لقنه هيتشكوك للمتلقي عبر دفعات تحفيزية وبطريقة غير مباشرة، هذه الأرضية التي تأسست عليها صناعة الأقراص المدمجة المرفوقة بالملاحق التثقيفية في السينما.
أمام هذه المعطيات لا يمكن لمشاهد فيلم ساشا جيرفاسي إلا أن يطرح أسئلة عدة حول أسباب ومسببات الاختيار السينمائي للإشتغال على مادة سينمائية مستنفدة في الإعمال المحاكاتي داخل  الفن السينمائي و في النقد وفي المقاربة الأكاديمية كمادة هيتشكوك وسينما هيتشكوك.  خصوصا وإن كانت عينة هذه المادة هي الفيلم الرائعة سايكوPsycho الذي شيد مرصد تأمل جديد لفلك السينما، واقترح مقاربات مختلفة تماما عن التي اعتاد عليها النقد السينمائي من قبل، وكان وراء بداية المشوار النقدي لأسماء أصبح لا يمكن تجاوزها في النقد السينمائي كالناقد الإنجليزي رابين وود Robin Wood، ناهيك عن مدراس نقدية برمتها كمدرسة السينماتولوجيا اللاكانية التي كان فيلم سايكو أهم ركائز أرضيتها الإبستيمولوجية.
 بفيلم سايكو يعود هيتشكوك كمؤلف، كقصة وكشخصية إلى السينما ويعود معه المشروع النقدي الذي يتحدى ويستفز المتلقي، على الأقل في عدم الاكتفاء بالمشاهدة الأفقية لبيوغرافيا من قبيل ما هو شخصي في حياة المخرج، وما هو ينتمي لعالم السينما داخل الكواليس”behind the scene”. ففي مرحلة جديدة تتقاطع فيها الفرجة السينمائية مع الثقافة والدرس الأكاديمي  ضرورة أن يستدعي عمل يضم هيتشكوك وما بصم به هيتشكوك تاريخ الفن السابع أكثر من هذه المشاهدة المحصورة في المخرج الإنسان. مجرد حضور هيتشكوك كشخصية فيلمية من جانب المحاكاة، لأنه طالما حضر كشخصية فيلمية تعكس الآلية التأليفية، يقترح تعديلا Adaptation يشمل جوانب النوايا الثلاث التي اقترحها أومبيرتو إيكو في عملية القراءة، والتعديل في الأول والأخير قراءة: نية المؤلف، نية النص، ونية المتلقي. وكما هو معلوم لكل متتبع لهيتشكوك بشكل من الأشكال، لم يغفل هذا العملاق في تاريخ السينما أي جانب من هذه الجوانب.            

هيتشكوك: رميكRemake  سايكو كنقد وتفكيك

عنوان فيلم هيتشكوك مثلما هو دلالة مبسطة  عن مشروع  قصة بيوغرافية عن المخرج العالمي هو كذلك رسم لأبعاد التحديات الشكلية والتعبيرية لفيلم ساشا جيرفاسي . هذه المعادلة اللغوية المبنية على الإسم والإضافة  ك "فيلم هيتشكوك" إشارة تقديمية قوية إلى أرضية الإلتباس التي ميزت سينما هيتشكوك عموما، وأخذت شكلا أكثر فصاحة في مرحلة سايكو والطيور Birds. هذه التركيبة اللغوية تحطنا مباشرة أمام رعب المفارقات الهيتشكوكية حين تصبح العلاقة بين فيلم وهيتشكوك معقدة بسسب ما تقترحه وما تفتح وتحد من مجالات للقراءة. هل هيتشكوك هنا صاحب الفيلم أم موضوع الفيلم؟ هل هيتشكوك هنا مادة مضامينية أم تنويعة شكلية؟ لكن هذا الالتباس - هذا الشرط الإبداعي المباعدحداثي- يعري عن حقيقة  لن يتوانى فيلم هيتشكوك في تأكيدها، وهي أن كل فيلم عن هيتشكوك، مقتبس كان عن هيتشكوك، أو عن مصدر يتناول هيتشكوك،  هو فيلم لهيتشكوك قلبا إن لم يكن قالبا.
في سياق الإلتباس هذا أشار سلافوج جيجيك Slavoj Zizek إلى استعصاء، أو عدم جدوى، أية عملية إعادة صياغة remake لعمل هيتشكوكي، فقط لأن نتيجة هذه العملية مرهونة مسبقا بالفشل.  فهي بأكثر ما تلغي بصمة السينمائي المُقلد، بكسر اللام، تكشف أثر هيتشكوك كسينمائي مقلَّد. في كل ريميك لهيتشكوك يختفى الفيلم ويظهر فقط هيتشكوك. إشارة جيجيك تجد  تعبيرية قوية داخل فيلم هيتشكوك. في اللحظة الفيلمية التي كان فيها هيتشكوك الشخصية يستحم ويقرأ الجريدة يسأل معلقا على عنوان مقال نقدي، "رواد التشويق الجدد"،  بنوع من التهكم والتحدي: " لماذا يهتمون بالنسخ والآصل لازال موجودا". تكثف العوالم المحيطة بسياق هذا السؤال من دلالته في سيميائية الفيلم بشكل يرصو على ما أشار له سلافوج جيجيك. ففضاء الحمام الذي ورد كثيرا في حوارات هيتشكوك كمجاز عن هوسه الشرجي بالنظام وترتيبه للأشياء بشكل قد يخفي أي أثر لاستعمالها، وكمسرح لأعقد لقطة سينمائية في تاريخ السينما، مقتل "جانيت لي" في سايكو، يجعل تساؤل هيتشكوك يُحمل على ما هو أبعد من نسبية السؤال إلى مطلق الحقيقة التي مفادها أن سينما التشويق تعدلت مع هيتشكوك بشكل يجعل بصمته بادية رغم محاولة إخفاءها بأية لمسة تأليفية خاصة. وهذه حقيقة لا تؤكدها الدراسة المنقبة عن أثر هيتشكوك في سينما الآخرين، وإنما الفيلموغرافية التي حاولت عبثا تجاوز هيتشكوك في سياق الرعب والتشويق. علاقة هيتشكوك مع سينما التشويق والرعب هي علاقة دون كيخوتي، وألف ليلة وليلة مع الرواية الأدبية. حتمية "الرميك" دائما ورادة، وأحيانا بالوعي التأليفي، وبمقصودية تناصية، كما هو صراحة في سينما الفرنسي كلود شابرول. 
التباس آخر يؤثت له العنوان هو هذا الذي يعتري بطل فيلم هيتشكوك، أنتوني هوبكينس Antony Hopkins. هذا الأخير تجمعه مع شخصيته علائق تتشابك واقعيا في الأصل الإنجليزي لكليهما، واشتغالهما مع المؤسسة الهوليودية الأمريكية، وسينمائيا في شخصية أكد من خلالها هذا الممثل العملاق، حضوره المتميز في السينما وهي شخصية هانيبال ليكتور في فيلم صمت الحمل     The   Silence of The Lamb للمخرج جونتان ديمي  Jonathan Demme. إضافة إلى كون هانيبال ليكتور شخصية هيتشكوكية بامتياز، فيها يجتمع المتحري والمحلل النفسي والمجرم في نفس الآن، تجتمع مع شخصية هيتشكوك في فيلم جيرفاسي في هذه النظرة الجمالية والشاعرية للجريمة. كلاهما يتفنن في تحويل الجريمة إلى "مسرح" بالمعنى المشهدي والفرجوي للكلمة. أنتوني هابكينس يخترق كذلك عوالم المخيال الملتبسة الهيتشكوكية بامتياز ليعود مرة أخرى ليدرس المجرم التسلسلي  "جون غامب" الذي يجد مرجعيته في "إيد غين" الذي ألهم شخصية نورمان بيت في فيلم سايكو. تداخل الذات الدارسة للجريمة في نفس الشخص عبر شخصيتين فيلميتين لموضوع الجريمة المتحول هو الآخر عبر عدة أقنعة سينمائية، يقحم الأداء السينمائي هو الآخر في دائرة التعالقات الفيلمية التي تفعل سينما هيتشكوك باعتمادها الذاكرة التناصية التي تتجاوز الفيلم إلى السينما، ومادة الفيلم إلى الترابطات في ذاكرة المتلقي. دور هيتشكوك  يقترح نفسه كشفرة فيلمية لفتح هذا المجال الفيلمي الذي تختفي فيه خيوط التمييز بين الشخصية والمؤلف، بين الممثل والمخرج، و بين الواقع السينمائي والواقع العيني الذين تنهل منهما هذه البيوغرافية الفيلمية.
سطحية الخطية  الحكائية التي ينم عنها عنوان "هيتشكوك"  تعد المتلقي بمادة مشوقة عن معلم التشويق تعرض لأهم محطات حياته وتتفضل بمفاتيح دلالية تزيح  ستار اللبس عن موضوعاته وتضيء المتعتم في كتابته السينمائية. لكن هذه المادة الحكائية لن تفي بهذا الغرض، على الأقل بمقياس مرجعية بيوغرافية سينمائية أخرى ك "شارلي شابلين" ل "ريتشارد أتينبوروغ".  ذلك لأنها تخفي ترسبات معقدة يتداخل فيها الحكائي بالروائي والبيوغرافي بالسينماتوغرافي.  ففي المواضيع الذي يجد فيه المشاهد العادي إسفافا وضعفا في الفيلم قد يجد فيها المشاهد السينيفيلي مفاتيح عدة تقترح تشفيرات للوغاريتمات هيتشكوكية عدة. لن يصعب العثور على مقاربات لم تر في "هيتشكوك" لساشا جرفاسي إلا عملا ضعيفا وتمرينا سينمائيا في الماكياج والمحاكاة لم يصل إلى هدفه. ومهما اخذت هذه المقاربات من مشروعية إما بالإسم النقدي أو بالمؤسسة النقدية التي وراءه، وإن كانت هذه المؤسسة قد أصبحت مجرد ذكرى لاغير، كدفاتر سينمائيةCahier du Cinema   (عدد فبراير 2013) فإنها لم تف الفيلم حقه، على الأقل في الاستقراء والاقتراح، وما نعنيه  هو مقاربته من خلال الظرفية التي أنتج فيها أو هذه التاريخانية السينمائية التي أصبح فيها الفعل السينمائي يتجاوز الإنتاج والعرض. فبيوغرافية سينمائية لهيتشكوك بعد كتابات روبن وود Robin Wood وستيفن ريبيلو Stephen Rebello وسلاجوف جيجيك ومودليسكي تانيا Modleski Tania و كاميل باغليا Camille Paglia،  تحط المتلقي في انتظار عمل سينمائي يتجاوز بيوغرافيا السينمائي إلى بيوغرافيا السينماتوغرافيا. وهو إنتظار تؤطر له مبدئيا  نوعية الفيلم والأرضية المرجعية التي استند عليها مباشرة، وهي كتاب "ستيفن ريبيلو" الذي  يجمع بين خطاب النقد والبيوغرافيا Hitchcock: The Making of Psycho. هذا السند الفيلمي لمفرده كفيل  بجعل المتلقي أمام انتظارين: انتظاربيوغرافية هيتشكوك وانتظار الفيلم عن طريقة إخراج سايكو.     
تتعقد المسألة  أكثر ويُفتح هامش الإنتظارعلى  كيفية  مواجهة المخرج في  إنجاز فيلم "هيتشكوك" لتحديات أخرى  تمليها  الظرفية  الآنية  للإستهلاك  السينمائي، والذي  يجمع  بين  الفرجة  والتثقيف كما سبق وتمت الإشارة إليه أعلاه. فمقتني  قرص  فيلم "Psycho" في نسخة Universal Legacy Series التي أنجزت للأحتفاء  بهيتشكوك، وتتضمن نقدا وتعليقات لكتاب سينما مرموقين، وحوارات مع طاقمه ومن لهم تجربة الإشتغال معه في باعه السينمائي الطويل، إضافة إلى بعض أفلامه القصيرة، أقول مقتني هذا الديفيدي الذي أعاد مشاهدة الفيلم مع التعليق المصاحب  لستيفن ريبيلو-صاحب الكتاب الذي اعتمده الفيلم- لابد وأن يخمن في نوعية هذه العلاقة التي تربط هذا الفيلم في نسخته التثقيفة مع فيلم هيتشكوك  لساشا جيرفاسي.
نفس التحدي  الذي قد يواجه المخرج في الكتابة والذي قد يواجهه المتلقي في استقراء العناصر الدلالية في الفيلم، ناتج  أصلا  عن نوعية  هذا  الفيلم  الذي  يتأسس على كتاب من جهة، وعلى الفيلم الذي يتناوله الكتاب من جهة أخرى. فيلم  هيتشكوك  يعتمد سايكو  وقراءة ستيفن ريبيلو لسايكو في نفس الآن. كما  أنه فيلم  ينخرط في تعديل (اتحفظ كثيرا على استعمال كلمة اقتباس) أو تحويل سينمائي  من نوع خاص، إذا أخدنا بعين الاعتبار أن ستيفين ريبيلو كان هو الصوت المعلق على الفيلم في نسخة أونيفيرسال ليغاسي. وكون هذه العملية التحويلية تراوغ في تعديلها السينماتوغرافي بين الكلمة المكتوبة من جهة والكلمة المنطوقة في التعليق المصاحب لفيلم سايكو من جهة أخرى، فنحن امام  نوعية تعديل سينمائي تنبني على الإزدواجية في توصيل نفس الرسالة المضامينية. أخذا بعين الإعتبار لكل هذه المعطيات السينمائية والخارج سينمائية يمكن مقاربة "هيتشكوك" كتعديل مزدوج: تعديل للكتاب كمؤلف مكتوب وتعديل لتعليق الكاتب على النسخة الفيلمية كمؤلف منطوق. و التعديلان معا تحكمهما حدود معطيات الصورة الهيتشكوكية في فيلم سايكو والتي تصبح هي الأخرى عنصرا لا يمكن الإحادة عنه بطريقة من الطرق خصوصا إذا التزم المخرج بالمجال الدلالي والتعبيري الذي تسمح به مصادر المادة المضمونية للفيلم، كما تحكمهما القراءة النقدية لمؤلف الكتاب، وتغير نمط القراءة في المستوى الصوتي المرافق للصورة في التعليق على الفيلم. يستند ستيفين ريبيلو في قراءته وتعليقه على المعطيات الدلالية والرمزية لفيلم سايكو، تشكل مادة مضمون فيلم "هيتشكوك" نفس المعطيات إضافة إلى قراءة ستيفين ريبيلو، وهي المعطيات التي تشكل مادة الشكل وتحدد أبعادها. معالجة ساشا جيرفاسي تجاوزت إملاءات مادة الشكل ومادة المضمون ليدخل في تناص مع النص الأصلي ينم عن مقاربة نقدية تنطلق من فيلم سايكو خاصة إلى سينما هيتشكوك في لغويتها عامة.
انطلاقا من هذا يمكن مقاربة فيلم  "هيتشكوك"  كذلك كتشخيص أيقونوغرافي لتعليق المؤلف على "سايكو" وإنارة مجازية للنقد الذي كتبه هذا الأخير في الكتاب. في كلا الحالتين لن يحيد المخرج عن المغامرة بالمعالجة من خلال هذه الصيغة السينمائية القديمة قدم السينما  وهي الكتابة عن السينما من خلال السينما أوالميتاسينما. خاصية تجربة "هيتشكوك" الفيلم هي تركيب الحدث الفيلمي كتفكيك وتحليل وكدراسة نصية تقارب فيلموغرافية هيتشكوك من خلال نموذج سايكو. وهذه المعالجة تبقى هي التعديل السينماتوغرافي الأمثل لمصدر الفيلم. ولن نجازف حين نقول أن فيلم "هيتشكوك" من هذا المنطلق سيدخل السينما كنوعية تحويلية جديدة وهي تعديل النقدAdaptation of Criticism.

ميتاسينيما "هيتشكوك"

تتحدد المعالجة الفيلمية لهيتشكوك عبر الخطوط العريضة التي تتقاطع فيها العملية النقدية في السينما، والتي تتأسس على ثلاث محاور مستقاة من النظرية السينمائية حددها الباحث والناقد الإيطالي فرانتشيسكو كازيتيFrancesco Casetti ، وهي محور السينما كآلية صناعية، ومحور السينما كآلية سيكولوجية ثم محور السينما كخطاب. إذا نظرنا لفيلم ساشا جيرفاسي انطلاقا من هذه المحاور سوف نجد أنفسنا إزاء عمل سينمائي ينبني على خطاب مقلوب، يتجه من النقد إلى الإبداع. عمل يجعل من المادة المضامينية بجوهرها وواجهتها مجرد تطعيم وإضاءة لفكرة نقدية وليس العكس. فيلم هيتشكوك لا يمنح نفسه لهذه القراءة فقط، بل يؤسس لمقاربة نقدية سيميائية مختبرية، لا تبحث في الفيلم عن هيتشكوك المخرج أو المؤلف أو الإنسان وإنما عن هيتشكوك كعلامات سينمائية وثقافية  كذلك، هذه العلامات المتحكمة في تشكيل الحدث الفيلمي، وتأثيث أرضية هذا الحدث بالعوامل الإنطباعية التي تعطي أبعادا إضافية للشخصيات ولحركة الشخصيات داخل الحبكة الفيلمية الهيتشكوكية.
من خلال القصة الفيلمية قارب المخرج سينما هيتشكوك من منظور الآلية الصناعية،  حين اعتنى بحيثيات الإنتاج وتطرق للشروط المالية، وإرهاصات السوق التي  نادرا ما تراعي تطلعات السينما الفنية من شاكلة سينما هيتشكوك. من خلال هذا المحور نقف على الصعوبات التي واجهت هيتشكوك في إنتاج فيلم سايكو، وتعامل مدير الإنتاج بالعملاقة الهوليودية بارامونت مع المشروع من المنظور التسويقي والسوقي الضيق الذي يعيّر السينما  بمقاييس الصناعة دون أن يلغيها كفن. تطرق المخرج لصراع هيتشكوك مع دوائر الإنتاج ليضطر في الأخير إلى إنتاج سايكو بماله الخاص عبر رهن قصره. مجازفة هيتشكوك بإصرار الفنان المتحكم في فنه في مشروع سايكو رغم الانتقادات التي حكمت استباقيا على فشله، أخذ تعبيرية قوية عبر مجاز مسبح القصر الذي يسكنه وأصبحت ملكيته هي الأخرى موضوع رهان لا غير. فالمسبح برمزيته المباشرة كأحد الدوال على نوع من البحبوحة والرفاهية في العيش التي كان يتمتع بها هيتشكوك، ويستعد للتضخية بها في سبيل رؤيته الفنية، هو كذلك مجال رمزي للتحرر من الأقنعة الوظيفية وفضاء لحرية الحركة. يمكن مقاربة  المسبح كاستعارة لشخصية هيتشكوك الفنية، فهو يبدع سينما في مجال تحكمه قوانين المال المتيبسة في البرغماتية دون أن يتخلى عن سيولة الإبداع الحر. كما يمكن مقاربة محاولة  هيتشكوك اللامجدية لتنظيف المسبح كنوع من محاولة السينما، عبر نماذج تأليفية اشتغلت من داخل الصناعة الهوليودية، وهيتشكوك على رأسها، في التخلص من واقعها كصناعة ثقيلة في قاموس السوق والتجارة، هذا الواقع الذي يطغى بانطباع يلوث ماهيتها كفن لدرجة التنميط. "مياه" الابداع في حالة تلوث دائم بحكم طبيعة الصناعة السينمائية خصوصا في معايير السوق المالية الأمريكية، لكن أمام هذا التلوث هناك أياد لا تكل في محاولة التنظيف، وبإصرار، تحقق استمرارية لتجربة هيتشكوك مع دور الإنتاج، مثل ألأخوان كوهن، وترينس مالك، على سبيل المثال لا الحصر.
لم يثن هيتشكوك عن عزمه في إنتاج فيلم سايكو. فخطة وطريقة عمله واختياره الطاقم الإنتاجي للفيلم تنم عن عبقريته كمؤلف سينمائي من جهة ومديرسينمائي  من طرازعال جدا يتحكم في توازن المعادلة بين المال والفن. وهو ما يعني تعامله الواعي والواقعي مع السينما كمجال إنتاج جماعي مردوديته  رهينة  بحسن الإدارة والتدبير بالدرجة الأولى. صور جيرفاشي  هيتشكوك  كمدير  بكل المعاني التي  تحملها الكلمة في السياق السينمائي  باللغة الإنجليزية Director أي كمرادف لمخرج، وما تحمله في قاموس الإدارة كتقنية تدبير وتسيير في إتجاه إنتاج أفضل ومردودية أكثر. مع هيتشكوك نقف على طريقة الإشتغال الهوليودية وبالتالي قد نعيد النظر في تقييمنا لهذه المؤسسة السينمائية حين نتكؤ على نموذج هيتشكوك لنربط الإبداع السينمائي بحسن الإدارة لكل العناصر المساهمة في الإنتاج بما في ذلك تفجير الطاقة الإبداعية لكل هته العناصر من مؤلفين  وممثيلين إلى مساعدين لوجستيكيين.
في محور الآلية الصناعية للإنتاج السينمائي، لم يفت المخرج الإشارة إلى موضوع الرقابة وسينما هيتشكوك خاصة في فيلم سايكو الذي سجل العديد من الخروقات السينمائية في موضوع الممنوع وغير المباح به بمقاييس فترة إنتاجه، لم تكن لتتجاوزها الآلية  الرقابية.  موقف هيتشكوك من الرقابة، كما سطر على ذلك المخرج، هو موقف السينمائي الذي يعي قدرة وإمكانية  الصورة السينمائية في التعرية على هواجس الفرد وعلاقته المعقدة مع المجتمع. باختياره لمشهد الحمام the shower scene في لقطة طعن البطلة في سايكو يمسرح هذا الموقف باتختزاله لكل الحيثيات التي تحيط بموضوع الرقابة وعلاقته بالآلية الصناعية الفيلمية. مشهد الحمام في فيلم سايكو كان واقعيا المبرر الرئيسي وراء التدخل العنيف لجهاز الرقابة في إبداع هيتشكوك. لأول مرة في السينما تبدو لقطة للماسور الذي شكل ظهوره قبل سايكو ما هو بمثابة الطابو السينمائي الهوليودي، أثناء الطعنات يظهر كذلك نهد البطلة، كل هذه الممنوعات تخطاها هيتشكوك بمراوغاته الذكية لجهاز الرقابة  معتمدا كما عادته على طاقة الصورة السينمائية وقدرتها الازدواجية في التعرية والتغطية لعناصر الواقع في نفس الآن. وهو ما اختزله المخرج في الرد على رئيس لجنة الرقابة حين استفساره عن عري البطلة في الفيلم حين قال بنوع من الثقة في النفس بأنها ليست عارية وإنما ترتدي غطاء الحمام. سلوك العناد الفني أمام الرقابة الذي ميز هيتشكوك في مسيرته الإبداعية الطويلة، يبدو من دفاعه عن اختياراته التصويرية بخطاب يقوض اعتبارات الرقابة عبر نفس الحجج التي تشرعنها. 
علاقة هيتشكوك مع الرقابة مستقطبة بين المغامرة والمساومة. بتركيز المخرج على مشهد الحمام كمسرح لتجلي هواجس هيتشكوك، وعلى رأسها هاجس جهاز الرقابة، يكون قد اختزل ما يميز معلم التشويق فيما يخص محور السينما كآلية صناعية. أهم هذه الخاصيات هي أسبقية الفكرة الإبداعية في الصورة السينمائية الهيتشكوكية. فمشهد الحمام، هذه المتوالية الأيقونة التي أصبحت معادلا صوريا لهيتشكوك، والتي لا تتجاوز45 ثانية،  بأسبوع من التصوير،و 70 كاميرا، تدونت في قاموس الثقافة السينمائية بكل الدلالات التعبيرية والجمالية التي تحويها، كتحد للفن أمام الحدود المضروبة حوله من النواميس والأعراف. وهو الخط الذي رسمته ولم تتزعزع عنه السينما الهيتشكوكية.
 في محور السينما كآلية سيكولوجية يقدم الفيلم قراء ة لهيتشكوك عبر ما هو عضوي في سينماتوغرافيا هيتشكوك وهو تصويرها لهذه الهواجس النفسية والأرواح الشريرة التي تسكن الإنسان، منيطا إلى السينما دور المتمرس في اخراجها وطردها. شكلت سينما هيتشكوك المتن النموذجي الذي يمنح تعبيرية قوية للنظرية والنقد السينمائي الذي يمتاح من مبحث التحليل النفسي والسيكولوجيا. وأقل ما يقال عن عمل المخرج ساشا جرفاسي في هيتشكوك هو تقديم دراسة تفكيك تحليلية وعيادية لسينما هيتشكوك من خلال شخصية هيتشكوك  نفسه. عبر هذه القرينة الكلاسيكية للإبداع كتعبير فاضح عن المبدع،  يقترح ساشا جيرفاسي مشاهدة أخرى لفيلموغرافية هيتشكوك تتجلى فيها صورته وشخصياته السينمائية كأعراض وإحالات أكثر منها استجابات شكلية لإملاءات الحدث الفيلمي.
 أخرج ساشا جيرفاسي، سينمائيا  وبالمعنى السيكولوجي العيادي هواجس هيتشكوك عبرعلاقته بشخصية "إيد غين" الخيالية والتي نقف من خلالها على الدواخل الذهانية للمخرج. في هذه العلاقة يذكرنا المخرج الأول أن المخرج الثاني نجح في استعمال السينما في أحسن ما تستعمل فيه كتعبير وفن وهو تسليط الضوء، تقريريا ومجازيا، على المكنونات والدواخل النفسية  بتجسيدها العيني والرمزي. يمكن أن نرى في هذا الخط الحواري التعالقي في الفيلم بطاقة شكر من ساشا جيرفاسي لهيتشكوك على الآفاق التعبيرية التي فتحها للسينما ولثقافة الحداثة عموما والتي يعتبر التحليل النفسي والسينما  علامتيها المميزتين بالدرجة الاولى. في علاقة السينما بالتحليل النفسي يعتبر هيتشكوك هذا السينمائي الذي فعّل تجسيدات مرئية للأعراض والدوافع السيكولوجية التي تحكم تصرفات الشخصيات الفيلمية  لسينيمات أخرى كسينما إنمار بيرغمان  . Ingmar Bergman
من جهة أخرى يمكن أن نقف في هذا الفيلم على اوالية سيكولوجية تسم أكثر من غيرها علاقة الأطراف التي تفعّل العمل السينمائي عموما والعمل الفيلمي الهيتشكوكي على الخصوص، ونقصد هنا  علاقة التماهي والإسقاط. تطرق الفيلم لهذه المعادلة داخل العملية التأليفية من خلال الحوار بين شخصيتي فيرا مايلس وجانيت لي،حيث حذرت الأولى الثانية من طبيعة السطوة والتحكم الهيتشكوكي تجاه الممثلات الشقراوات بالدرجة الأولى. تحذير فيرا مايلس اعتمد هو الآخر على السينما حين أضاءت فكرتها بسند فيلمي كعلاقة  "جيمس ستيوارت" و"كيم نوفاك" في فيلم دوار Vertigo. حين صرحت فيرا مايلس لجانيت لي بكونها هي الأخرى نموذجا يحاكي نمط الشقراء المثالية في المخيال الهيتشكوكي تكون قد سلطت الضوء  عن العمل الفيلمي كإخراج‘ بالمعنى الحرفي ، لنموذج تصممه ازدواجية الإسقاط والتماهي.  هذه العلاقة ستأخذ بعدها السينماتوسايكولوجي،  إن أمكن هذا الاصطلاح، أكثر تعبيرية في لقطة هيتشكوك في غرفة نومه حيث كانت ألما زوجته  تشاهد فيلما تلفزيا. احتقان الجو بين الزوجين بدافع الغيرة جعل هيتشكوك  يماهي بين زوجته  وبطلة الفيلم.  تعليقه على حالة بطلة الفيلم  التلفزي  لم  يكن إلا وصفا دقيقا  للحالة التي كانت تعيشها هذه ألما. كلام هيتشكوك مع زوجته عن الوضع كان هو الآخر من خلال الصورة السينمائية التي أصبحت قناة تصريف للمشاعر والإحساسات بينهما. هذا التصريف يتم عبر شرط التماهي مع الشخصيات  الفيلمية  ليأخذ  بعد المهمة التنفيسية؛ ثم عبر الإسقاط  للحالة الدرامية على الوضع  الواقعي  وهنا  يأخذ بعد المهمة التواصلية. سينما  هيتشكوك  كانت نموذج السينما التي تشتغل داخل هذه الأبعاد بشكل مرن وفعال.
فيلم  هيتشكوك  هو كذلك  وضعيات  سينمائية  تجسد  إسقاطات  ناتجة عن نزوة  النظاّر التملكي – هذا التلصص عبر المشاهدة- بالمعنى الحرفي والمجازي لVoyeurism  خصوصا في السياق الهيتشكوكي.  بالنسبة لهذا الموضوع  بالذات، يمكن مقاربة فيلم  هيتشكوك كقاموس سينمائي يزخر لفظيا بمقولات هيتشكوك التي تربط  المشاهدة السينمائية  بالرغبة في  تحقيق الإشباع في استراق النظر على عورات الآخرين بكل تجلياتها، من النفسية الاجتماعية إلى الجسدية الجنسية. سينما هيتشكوك هي المقابل التطبيقيي لنظرة المفكر الأمريكي فيديريك جيميسون Federic Jameson  للسينما كفن بورنوغرافي بالدرجة الأولى، لأنها تعرية بالمعنى الإباحي عن واقع ما، وتحقيق إشباع من وراء هذه العملية. ينطلق العمل السينمائي الهيتشكوكي من مبدأ أن النظّار التملكي  طبيعة  بشرية وإن تفاوتت  بدرجات. في فيلم ساشا جيرفاسي تتم الإشارة إلى هذه الحالة في عدة مواقف أبرزها وأكثرها تعبيرية هي الجملة الحوارية التي يرد بها هيتشكوك على مدير أعماله "لن يستطيعوا التوقف عن النظر وإن حاولوا". كما يزخر الفيلم  بلقطات كثيرة لهيتشكوك وهو في وضعيات تلصص إما عبر النافذة، أو عبر ثقب في الحائط، ما يحيل مباشرة على متواليات ولقطات من فيلموغرافيته، وبطريقة غير مباشرة على نظرته للسينما كهذا الجهاز الذي يخول للنظرة أن تمتد بحكم القدرة والإمكانية  في  فضاءات محضورة عليها في الواقع.
مع سينما هيتشكوك بالذات اكتشفت فكرة السينما كمجرد تعزيم لدواخل المتلقي عبر تحريك عواطفه وتأجيج مكبوتاته وتجسيد هواجسه وتخوفاته. لقد نجح ساشا جريفاسي إلى حد بعيد في تقديم مادة متنوعة بين الأيقونوغرافية والأيقونولوجيا تغطي علاقة علم  النفس والتحليل النفسي  بسينما هيتشكوك. وهي مادة تتطلب في تفكيكها، كما كل مادة في هذا المبحث، جهدا استقرائيا يعتمد على أبجدية القرائن الفيلمية أكثر من  مجرد تأويل قاموسي لرموز وإشارات  الفيلم  كعلامات مستقلة. على ضوء هذا يمكن أن نرى في  صياغة المخرج  الفيلمية التي تلعب على ثنائية الظاهر والباطن عمل  ترجمة  سينمائية لما كتبه المفكر سلافوج جيجيك في موضوع هيتشكوك والتحليل النفسي في كتابه الشهير "كل ما تجهله عن لاكان وتخشى سؤال هيتشكوك".
في المحور النقدي الذي يتناول السينما كخطاب  نقف على  أهم الخاصيات المميزة  للخطاب السينمائي الهيتشكوكي وما ترك هذا المخرج المؤلف من بصمة على الخطاب التعبيري السينمائي عموما. نقصد  بهذه  المميزات ما يشكل  ثوابت  الكتابة  السينمائية عند  هيتشكوك، والتي  شكلت موضوع المقاربة النقدية والدرس السينمائي والتحليل، استنادا على  أرضيات معرفية مختلفة،  وعبر أدوات ومنهجيات استقرائية متنوعة. ونعني  بخاصيات  الخطاب السينمائي الهيتشكوكي  هذه المجرة من العناصر الدلالية  التي  تتمتع  باستقلالية داخل  نسق الخطاب الفيلمي، وتنجذب نحو بعضها بعض لتدخل في فلك تعبيرية الصورة السينمائية وفي خلق الدلالة والمعنى بغض النظر عن موقعها في سيميوطيقا الحدث الفيلمي. فالإدراك في السينما الهيتشكوكية هو نتيجة للفعل السينمائي بالدرجة الأولى مع كل استقلالية عن مرجعيات القصة في الحيز الخارج سينمائي.  فالقصة الفيلمية الهيتشكوكية، هي نتيجة لغوية سينماتوغرافية بالدرجة الأولى، و كل حبكة  تبقى مادة خام ناقصة لاتكتمل إلا من خلال هذه اللغوية، وربما في هذا ما يبرر  ابتعاد هيتشكوك عن التعديل السينمائي للأعمال الأدبية الكبرى. خطاب السينما الهيتشكوكية يتفعل من داخل السينما بالدرجة الأولى، عبر قاموسه الخاص و بقرائن جديدة لأبجديته. وقد رسخ هيتشكوك لهذا التقليد الخطابي التعبيري على الطريقة الألمانية الذي نجده ممتدا من تجربة جون ليك Jean Luc Godard  غودارد إلى ليوس كاراكس Leos Carax.
 استناد  المخرج  ساشا جيرفاسي على  متن سايكو كنص فيلمي مرجعي، وعلى المقاربة النقدية الصوتية والكتابية حول الفيلم  كنص آخر، يعقد  كثيرا عملية  تفكيك الخطاب الهيتشكوكي إلى العناصر التي ميزته داخل الخطاب السينمائي عامة وجعلته المؤلف السينمائي بامتياز  الذي  اشتغل وأنتج بشروط الأستوديو. يشكل فيلم سايكو مبدئيا العمل أكثر اكتمالا في بنيان الخطاب السينمائي الهيتشكوكي. في سايكو لا تتلخص شخصية هيتشكوك كسينمائي وفنان فقط، بل تتلخص فكرته ونظريته في السينما والإبداع عموما. عن هذا الفيلم  يصرح هيتشكوك  لفرونسوا تريفو François Truffaut في حوارهما الشهير:
   "لم  يكن ليهمني الموضوع  أو الأدوار التي لعبها الممثلون وإنما الأجزاء التي تكون منها الفيلم. أعني التصوير، وكل العناصر التقنية التي جعلت الجمهور يصرخ رعبا. وهذا هو ما أرضاني كثيرا.  أعني تحقيق هذا النوع من الشعور وتأجيج العاطفة بشكل جماعي عبر فن السينما لا غير. سايكو حقق فعليا وعمليا هذا الهدف. لم تكن رسالة الفيلم، أو قصته أو أداء أبطاله هو ما أثار الجمهور وهيج مشاعره وإنما الفيلم نفسه. السينما فقط. سايكو هو هذا الفيلم  الذي  ينتمي  لصناعة السينما بالدرجة الأولى. الفيلم الذي  تكون فيه الكاميرا سيدة الرأي وتحقق فيه إشباعك الإبداعي  من خلال التقنية وليس المضمون. إنه الفيلم الذي  تصممه كما يصمم  شيكسبير مسرحياته للجمهور. وطبعا فيلما كهذا لن يرضي النقاد، خصوصا هؤلاء الذين يقدمون السيناريو على الصورة."
إن كان فيلم سايكو قد توج فعليا هيتشكوك كأحسن تقني في تاريخ السينما، فإنه أكد عن حقيقة السينما كفن يشتغل من خلال التقنية بالدرجة الأولى بعيدا عن كل مصدر خارج سينمائي. يعتبر سايكو كذلك هو الفيلم الذي يعبر عن الفيلموغرافية وعن السينما عموما. فهو يتضمن المقطع السينمائي الذي يمكن أن يختل تجربة سينمائية برمتها، كما أشار فرانتشيسكو كازيتي في مناسبة ما. وهو الوصف الذي ينطبق على مشهد مقتل جانيت لي، والذي سجلته  السينما  في ذاكرتها  كأعقد مونطاج. هذا المشهد توقيع على  الطاقة الإبداعية التي&a
عبداللطيف عدنان-هيوستن-وم أ  (08-07-2013)    

0 التعليقات:

إرسال تعليق